للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه اللَّه، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى اللَّه مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فضاع عنهم، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث وْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ

فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ. فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه «١» وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح.

قلت: هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ:

تنفقون، بالتاء ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ

الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم اللَّه بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أى: وما ظلمهم اللَّه بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ (ولكن) بالتشديد، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد:

ولكن أنفسهم يظلمون، على إسقاط ضمير الشأن، لأنه إنما يجوز في الشعر.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)


(١) . قال محمود «فان قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه … الخ» قال أحمد: أما إيراد السؤال فلا ترتضي صيغته لما فيها من حيف بالأدب، إذ جزم السائل المقدر بأن كلام اللَّه تعالى غير مطابق لمراده، واللائق بالسؤال الوارد عن كتاب اللَّه تعالى أن يذكر بصيغة الاسترشاد الصريحة، لا بصيغة الاعتراض المحضة والعبارة الصحيحة أن يقال: فما وجه مطابقة الكلام للغرض. ولا ينبغي التساهل في ذلك، فان أحدنا لو أورد سؤالا على كلام إمام معتبر بمرأى منه ومسمع، تحيل في أنواع التلطف في إيراده وبعد عن أمثال هذه العبارة. ولعل الاعتراض على ذلك الامام يكون وارداً لا يمكن عنه جواب، فكيف يليق التسامح في إيراد الأسئلة على كتاب اللَّه تعالى بصيغ الاعتراضات، وإنما يسئل عن كتاب اللَّه تعالى بمرأى منه ومسمع على علم بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فما أجدره أن يتوفر في الاسترشاد وأن يتأدب في الإيراد ثم نعود إلى جواب الزمخشري الثاني وهو قوله «إن المراد مثل إهلاك ما ينفقون» فنقول: لم يكشف الغطاء بهذا الجواب عن المطابقة المسئول عنها، والسؤال باق. وذلك أن الريح المشبه بها ليست الإهلاك وإنما هي المهلكة. ولا مطابقة بين المصدر والاسم إلا بتأويل آخر، وحينئذ يبعد هذا الوجه. وأقرب معه أن يقول: أصل الكلام واللَّه أعلم: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته. ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهو تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. ومثل هذا في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله تعالى: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما … ) الآية ومثله أيضاً: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه. والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة، واللَّه الموفق.