للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونحوه قوله تعالى يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. فإن قلت: فما باله معرّفا في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؟ قلت: قصد ثمة معنى آخر: وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس «١» الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط. قالوا: خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجنّ من نار خلقها منه. وآدم من تراب خلقه منه. فإن قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت:

قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشى من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. فإن قلت: لم سمى الزحف على البطن مشيا؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا في الأمر المستمرّ: قد مشى هذا الأمر. ويقال: فلان لا يتمشى له أمر.

ونحوه استعارة الشقة مكان الجحفلة «٢» ، والمشفر مكان الشفة. ونحو ذلك. أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين.

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)

وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولى، فمعناه على الأوّل: إعلام من الله بأنّ جميعهم منتف عنهم الإيمان لا الفريق المتولى وحده. وعلى الثاني:

إعلام بأنّ الفريق المتولى لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيمانا، إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة القلب، لأنه لو كان صادرا عن صحة معتقد وطمأنينة نفس لم يتعقبه التولي والإعراض.

والتعريف في قوله بِالْمُؤْمِنِينَ دلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت: وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، الموصوفون في قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا.


(١) . قال محمود: «إن قلت لم نكر ماء هاهنا وعرفه في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؟ قلت:
الغرض فيما نحن فيه أنه تعالى خلق كل دابة من نوع من الماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات بحسب اختلاف نطفها، فمنها كذا ومنها كذا. ونحوه قوله يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ وأما آية «اقترب» فالغرض فيها أن أجناس الحيوانات كلها مخلوقة من هذا الجنس» قال أحمد: وتحرير الفرق أن المقصد في الأولى إظهار الآية بأن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة، ذكر تفصيلها في آية النور والرعد:
والمقصد في آية اقترب: أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع، فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة، فالآية في الأول لإخراج المختلف من المتفق، والله أعلم.
(٢) . قوله «مكان الجحفلة» في الصحاح: الجحفلة للحافر، كالشفة للإنسان، اه أى لذي الحافر. (ع)