للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب «١» فيرقوا لهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة «٢» ويطيبوها عن مساكنهم، ويمضوا قدماً «٣» غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوى إليه أخادعه، كما قال:

تَلَفَّتُّ نَحْوَ الحَىّ حَتّي وَجَدتُنِى … وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا «٤»

أو جعل النهى عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قيل: هو مصر، وعدّى وَامْضُوا إلى حَيْثُ تعديته إلى الظرف المبهم، لأن حَيْثُ مبهم في الأمكنة، وكذلك الضمير في تُؤْمَرُونَ وعدى قَضَيْنا بإلى لأنه ضمن معنى: أوحينا، كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً. وفسر ذلِكَ الْأَمْرَ بقوله أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش: إن، بالكسر على الاستئناف، كأن قائلا قال: أخبرنا عن ذلك


(١) . عاد كلامه. قال: «وإنما نهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب … الخ» قال أحمد:
ولقد شملت هذه الآية على وجازتها آداب المسافرين لمهم دينى أو دنيوى، من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ.
(٢) . قوله «وليوطنوا نفوسهم عل المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم» لعل فيه تقديما، والأصل: على المهاجرة عن مساكنهم ويطيبوها، فليحرر. (ع)
(٣) . قوله «ويمضوا قدما» في الصحاح «مضى قدماء بضم الدال: لم يعرج ولم ينثن. (ع)
(٤) .
ولما رأيت البشر أعرض دوننا … وحالت بنات الشوق يحنن نزعا
بكت عينى اليسرى فلما زجرتها … عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني … وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
للصمة بن عبد الله بن طفيل بن الحرث، والبشر: السرور وما به السرور، وأعرض: ظهر أمامنا، وحالت- بالمهملة- أى صارت حائلا بيننا وبين البشر ومنعتنا عنه، وبكت: جواب لما، وخص اليسرى أولا، لأنه كان أعور. ويروى: جالت، بالجيم أى حامت خواطر القلب الناشئة من الشوق في قلبي، حال كونها نحن إلى المحبوبة، نازعات شائقات إليها، يقال: نزع نزوعا إذا مال قلبه واشتاق إلى حبه. والنزع: جمع نازع، فشبه الخواطر بالبنات على طريق التصريحية، لتولدها من الشوق وإثبات الجولان والحنين، والنزوع ترشيح، لأن الأول خاص بالمحسوس، والأخيران بالمدرك. وإسناد الحنين والنزوع إليها مجاز عقلى، لأنهما في الحقيقة لمحلها وهو القلب، بل الشخص وهو سببها. والجهل ضد الحلم. أسبلتا: سالت دموعهما، وإسناد البكاء للعين مجازاً، ومعناه دمعت عينى، فيجوز تشبيهها بالإنسان على طريق المكنية، وزجرها ترشيح، وجهلها وحلمها تخييل، وتلفت: أى أكثرت الالتفات جهة الحي، حتى وجع ليتى وأخدعى. يقال: وجع وجعا كتعب تعبا. والليت- بالكسر-: صفحة العنق. والأخدع: عرق فيها، وهما تمييزان محولان عن الفاعل، وذلك مبالغة في كثرة التلفت.