للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بسقى الماشية؟ قلت: الأمر في نفسه ليس بمحظور، فالدين لا يأباه. وأما المروءة، فالناس مختلفون في ذلك، والعادات متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة إِنِّي لأى شيء أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قليل أو كثير، غث أو سمين ل فَقِيرٌ «١» وإنما عدى فقير باللام، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. قيل: ذكر ذلك وإن خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال، ما سأل الله إلا أكلة. ويحتمل أن يريد: إنى فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلىّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة: قال ذلك رضا بالبدل السنى، وفرحا به، وشكرا له، وكان الظل ظل سمرة عَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع الحال، أى: مستحيية متخفرة «٢» . وقيل. قد استترت بكم درعها. روى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان «٣» قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما:

اذهبي فادعيه لي، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: امشى خلفي وانعتى لي الطريق، فلما قص عليه قصته قال له. لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا. فإن قلت:

كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة، وأن يمشى معها وهي أجنبية؟ قلت: أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرّا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى في الأخبار، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه. وأما مما شاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال، مع ذلك الاحتياط والتورّع. فإن قلت: كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف؟ قلت:

يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف. وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ. كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيّف ويكرم خصوصا في دار نبىّ من أنبياء الله، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلبا للأجر. وقد روى ما يعضد كلا القولين: روى أنها لما قالت: ليجزيك، كره ذلك، ولما قدّم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض «٤» ذهبا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا. حتى قال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. وعن عطاء ابن السائب: رفع صوته بدعائه ليسمعهما، فلذلك قيل له: ليجزيك أجر ما سقيت، أى، جزاء سقيك. والقصص: مصدر كالعلل، سمى


(١) . قوله «غث أو سمين لفقير» أى مهزول كما في الصحاح. والمراد: ردىء أو جيد. (ع)
(٢) . قوله «أى مستحيية متخفرة» الخفر: شدة الحياء. ومنه جارية خفرة ومتخفرة، كذا في الصحاح. (ع)
(٣) . قوله «وأغنامها حفل بطان» في الصحاح: ضرع حافل، أى ممتلئ لبنا. وفيه: بطن بالكسر يبطن بطنا:
عظم بطنه من الشيع. (ع)
(٤) . قوله «لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا» في الصحاح «طلاع الشيء» : ملؤه. (ع)