للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

«وصى» حكمه حكم «أمر» في معناه وتصرفه. يقال: وصيت زيدا بأن يفعل خيرا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. ومنه بيت الإصلاح:

وذبيانيّة وصّت بنيها … بأن كذب القراطف والقروف «١»

كما لو قال: أمرتهم بأن ينتهبوها. ومنه قوله تعالى وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أى وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك: وصيت زيدا بعمرو، معناه: وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى قوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً: وصيناه بإيتاء والديه حسنا، أو بإيلاء والديه حسنا، أى: فعلا ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وقرئ: حسنا. وإحسانا. ويجوز أن تجعل حُسْناً من باب قولك: زيدا، بإضمار «أضرب» إذا رأيته متهيئا للضرب، فتنصبه بإضمار أو لهما. أو افعل بهما، لأن التوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، كأنه قال: قلنا أو لهما معروفا وفَلا تُطِعْهُما في الشرك إذا حملاك عليه. وعلى هذا التفسير إن وقف على بِوالِدَيْهِ وابتدأ حُسْناً حسن الوقف، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول، معناه: وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أى لا علم لك بإلهيته. والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال: لتشرك بى شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم: وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكر، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم قال: إلىّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم. وفيه شيئان، أحدهما: أن الجزاء إلىّ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا، كما أنى لا أمنعهما رزقي. والثاني: التحذير من متابعتهما على الشرك، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد.

روى أن سعد بن أبى وقاص الزهري رضى الله عنه حين أسلم قالت أمّه- وهي حمنة بنت أبى سفيان بن أمية بن عبد شمس-: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح «٢»


(١) . لمعقر بن حمار البارقي، أنشده ابن السكيت في كتابه المسمى: إصلاح المنطق، أى: امرأة منسوبة إلى قبيلة ذبيان وصت بنيها. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وخبرها: كذب، وهو قد يكون بمعنى وجب كما في الصحاح. وفي الحديث: ثلاثة أسفار كذبن عليكم، أى: وجبن. وعن عمر رضى الله عنه: كذب عليكم الحج، أى وجب. وفي الكلام معنى الحث والإغراء. والقراطف: جمع قرطف، وهو القطيفة المخملة. والقروف:
أوعية من أدم يجعل فيها اللحم المشوى. والقرف- بالكسر-: المقشر. والقرفة: قشر يداوى به. والقرف- بالفتح- وعاء من جلد يدبغ بالقرفة. واقترف، واقترب: متقاربان لفظا ومعنى، أى: وصتهم باغتنامها وحفظها معهم. [.....]
(٢) . قوله «من الضح» في الصحاح «الضح» : الشمس. وفي الحديث: «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل، فانه مقعد الشيطان» اه. (ع)