للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل. فإن قلت: ما تقول في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) «١» وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار، لا يخلو من مقاولة ودمدمة «٢» ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا اللَّه كما يسمع وسوسة الشيطان وَالْمُطَلَّقاتُ أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء. فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضى العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجوداً. ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك اللَّه، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد. ولو قيل:

ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل


(١) . قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: ما القول في قوله فان اللَّه سميع عليم … الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: في هذا الجواب إسلاف جواب عن سؤال آخر يتوجه على أبى حنيفة رضى اللَّه عنه فيقال له: إذا كان مضى الأربعة الأشهر يوجب عندك وقوع الطلاق بنفسه غير موقوف على إيقاع من أحد، فما الذي يسمع إذاً؟ وهو أمكن من السؤال الذي قدره الزمخشري، فان لقائل أن يقول: عبر بالعزم عن الإيقاع لأنه يستلزمه غالبا، وفي أثناء كلامه نكتة تحتاج إلى التنبيه عند قوله: والعزم بما يعلم ولا يسمع، والذي ننبه عليه أن قاعدة أهل السنة أن كل موجود يجوز أن يسمع، حتى الجواهر والألوان والمعاني بجملتها، وكذلك يعتقد أن موسى عليه السلام سمع الكلام القديم وليس بحرف ولا صوت، فلا يتوقف السمع عندهم على أن يكون المسموع صوتا ولا نطقا، غير أن المعتاد انقسام الموجودات إلى مسموع ومرئى وملموس ومشموم ومذوق وهو المعلوم بالحس، وإلى معلوم بغير ذلك. وعلى هذا المعتاد جرت عادة خطاب اللَّه تعالى لعبده، وإن كان الزمخشري ثابتا فيما قاله على الأمر العرفي معتقدا ما ذكرناه من حيث المعروف- وما أراه كذلك- فالأمر سهل. وإن كان أخرج كلامه المذكور على قاعدة الاعتزال- وهو الظاهر من حاله في اعتقاد أن ما عدا الأصوات لا يجوز أن يسمع عقلا- فالحذر الحذر من هذه القاعدة الفاسدة واللَّه المستعان. ثم لا بد لنا في مسألة الإيلاء من البصر لما يعتقده من مذهب مالك رضى اللَّه عنه، ومذهب مالك رضى اللَّه عنه هو الذي اقتفاه الشافعي رضى اللَّه عنه في المسألة فنقول: مضى أربعة الأشهر بمجرده لا يوجب وقوع الطلاق على الزوج، لأن الأصل بقاء العصمة، وقد جعل اللَّه له الفيئة بعد تربص الأجل المذكور، ونحن وان بينا أولا أن الآية لا تأبى وقوع الفيئة في الأجل وهي أيضا تأبى وقوعها بعد الأجل، فينتظم من أصليه، أعنى بقاء العصمة. والسلامة من معارضة الآية، وقوع الفيئة المعتبرة بعد الأجل، وبقاء العصمة بعد الأجل، استصحابا للأصل غير معارض بالآية، وهو المطلوب.
(٢) . قوله «لا يخلو من مقاولة ودمدمة» في الصحاح: دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض، لكنه غير مناسب هنا، فلعله زمزمة بالزاي. وفي الصحاح: الزمزمة صوت الرعد. والزمزمة: كلام المجوس عند أكلهم. أو رمرمة بالراء، وفي الصحاح: ترمرم، إذا حرك فاه للكلام اه. وهذا أنسب. (ع)