محتملات هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها، ومثال ذلك (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، (لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) . (أَمَرْنا مُتْرَفِيها)
. فإن قلت:
فهلا كان القرآن كله محكما؟ قلت: لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة اللَّه وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند اللَّه، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام اللَّه ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح اللَّه عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هم أهل البدع فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أى لا يهتدى إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا اللَّه «١» وعباده الذين رسخوا في العلم، أى ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع. ومنهم من يقف على قوله إلا اللَّه، ويبتدئ والراسخون في العلم يقولون.
ويفسرون المتشابه بما استأثر اللَّه بعلمه، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته، كعدد الزبانية ونحوه:
والأوّل هو الوجه. ويقولون: كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أى بالمتشابه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أى كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند اللَّه الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل. ويجوز أن يكون
(١) . قال محمود: معناه لا يهتدى إلى تأويله … الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وقوله «لا يهتدى إليه إلا اللَّه» عبارة قلقة، ولم يرد إطلاق الاهتداء على علم اللَّه تعالى، مع أن في هذه اللفظة إيهاما إذ الاهتداء لا يكون في الإطلاق إلا عن جبل وضلال- جل اللَّه وعز- حتى إن الكافر إذا أسلم أطلق أهل العرف عليه: فلان المهتدى، ذلك مقتضى اللغة فيه فانه مطاوع هدى. يقال: هديته فاهتدى، والإجماع منعقد على أن ما لم يرد إطلاقه وكان موهما لا يجوز إطلاقه على اللَّه عز وجل. ولذا أنكر على القاضي إطلاقه المعرفة على علم اللَّه تعالى حيث حد مطلق العلم بأنه معرفة المعلوم على ما هو عليه. فلأن ينكر على الزمخشري إطلاق الاهتداء على علم اللَّه تعالى أجدر. وما أراها صدرت منه إلا وهما حيث أضاف العلم إلى اللَّه تعالى وإلى الراسخين في العلم، فأطلق الاهتداء على الراسخين، أو عقل عن كونه ذكرهم مضائين إلى اللَّه تعالى في الفعل المذكور واللَّه أعلم. [.....]