للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بوضعهم «الحدّ» بدله: فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عَنْ مَواضِعِهِ) وفي المائدة (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) قلت: أمّا (عَنْ مَواضِعِهِ) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة اللَّه وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان. وقرئ: يحرّفون الكلام. والكلم- بكسر الكاف وسكون اللام-: جمع كلمة تخفيف كلمة. قولهم غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من المخاطب «١» . أى اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذمّ أى اسمع منا مدعوا عليك- بلا سمعت- لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أنّ قولهم- لا سمعت- دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جواباً «٢» يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول اسمع، أى اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوّاً عنه. ويحتمل المدح، أى اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وكذلك قولهم راعِنا يحتمل راعنا نكلمك، أى ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية «٣» أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزؤا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فتلا بها وتحريفا، أى يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا)


(١) . قال محمود: «غير مسمع حال من المخاطب … الخ» قال أحمد: مراده بذلك أنه لما فسر غير مسمع بالدعاء وهو إنشاء وطلب وقد أوقعه حالا والحال خبر، أراد أن يبين أوجه صحة التعبير على الخبر بالانشاء بواسطة أن هؤلاء كانوا يظنون دعاءهم مستجابا مخبرا بوقوع المدعو فيه. ونظيره ورود الأمر بصيغة الخبر تنبيها على تحقق وقوعه. [.....]
(٢) . قال محمود «ومعناه غير مسمع جوابا … الخ» قال أحمد: والظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به في هذه السورة مثل «غير مسمع» و «راعنا» ولم يقصد هاهنا تبديل الأحكام وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله: (يُحَرِّفُونَ) وبين قوله: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) والمراد أيضاً: تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر- واللَّه أعلم- أن المراد فيها بالكلم الأحكام وتحريفها تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد. ألا تراه عقبه بقوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أى ينقلونه عن الموضع الذي وضعه اللَّه فيه فصار وطنه ومستقره إلى غير الموضع، فبقى كالغريب المتأسف عليه، الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل «راعنا» «وغير مسمع» وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف.
(٣) . قوله «ويحتمل شبه كلمة عبرانية» عبارة النسفي: ويحتمل شبه كلمة عبرانية، إلى آخر ما هنا. (ع)