(٢) . قال محمود: «إن قلت بم تعلقت الباء في قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قلت: إما أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا. وإما أن تتعلق بقوله: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أن قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ) انتهى كلامه» . قلت: ولذكر البدل المذكور سر، وهو أن الكلام لما طال بعد قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا، قوى ذكره بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) حتى يلي متعلقه، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله، لأن جميع ما تقدم من النقض، والقتل، وقولهم قلوبنا غلف، وكفرهم، وقولهم على مريم بهتانا عظيما. ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه الإجمال المذكور آخرا انطواء جامعا، مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم. وقد تقدم لهذا التقرير نظائر واللَّه الموفق. (٣) . عاد كلامه. قال: «إن قلت هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها) فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأن قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أن اللَّه خلقها غلفا، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها» انتهى كلامه. قال أحمد: هؤلاء قوم زعموا أن لهم على اللَّه حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة للحق ولا متمكنة من قبوله، فكذبهم في قولهم لأنه خلق قلوبهم على الفطرة أى أن الايمان وقبول الحق من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين، وذلك هو المعبر بالتمكن، وبخلقهم ميسرين للايمان، متأتيا منهم قبول الحق قامت عليهم حجة اللَّه، إذ يجد الإنسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان، وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه، كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة، فقد قامت الحجة وتبلجت، ألا للَّه الحجة البالغة، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم «لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا، كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا، وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق على زعمه يصرفها العبد حيث شاء في إيمان وكفر، وافق ذلك مشيئة اللَّه أولا، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على خلاف مشيئة اللَّه تعالى، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة، القائلين بأن اللَّه تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن لا يعبدوها لما عبدوها، وتسميتهم لذلك مجبرة، ويجعل قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ردا على الأشعرية كما هو رد على الوثنية، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها، وهي: أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لأنهم ظنوا أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على اللَّه، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فأوضح اللَّه تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم: إن اللَّه لو شاء لهداكم أجمعين، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك حجة على اللَّه بقوله: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فهذا التقدير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف، وما عداه من الاشراك الصراح فخزي، نعوذ باللَّه منه.