للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ قلت: بمحذوف تقديره: بسم اللَّه أقرأ أو أتلو «١» لأن الذي يتلو التسمية مقروء، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال: بسم اللَّه والبركات، كان المعنى:

بسم اللَّه أحل وبسم اللَّه أرتحل وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ب «بسم اللَّه» كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له. ونظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ وجلّ: (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) ، أى اذهب في تسع آيات. وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس: بالرفاء والبنين، وقول الأعرابى: باليمن والبركة، بمعنى أعرست، أو نكحت. ومنه قوله:

فقُلْتُ إلى الطَّعام فقَالَ مِنْهُمْ … فَرِيقٌ نحْسُدُ الإِنْسَ الطَّعامَا «٢»


(١) . قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «الباء في البسملة تتعلق بمحذوف تقديره: بسم اللَّه أقرأ أو أتلو» قال أحمد:
رحمه اللَّه تعالى: الذي يقدره النحاة «أبتدئ» وهو المختار لوجوه: الأول: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل بسملة ابتدئ بها فعل ما من الأفعال خلاف فعل القراءة، والعام صحة تقديره أولى أن يقدر، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبراً أو صفة أو صلة أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره، والثاني: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض من البسملة إذ الغرض منها أن تقع مبدأ فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت «أقرأ» فإنما تعنى أبتدئ القراءة والواقع في أثناء التلاوة قراءة أيضا لكن البسملة غير مشروعة في غير الابتداء. ومنها طهور فعل الابتداء في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) . وقال عليه السلام: «كل أمر خطير ذى بال لا يبدأ فيه باسم اللَّه فهو أبتر» . ولا يعارض هذا ما ذكره من ظهور فعل القراءة في قوله تعالى:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فان فعل القراءة إنما ظهر ثم لأن الأهم هو القراءة غير منظور إلى الابتداء بها. ألا ترى إلى تقدم الفعل فيها على متعلقه لأنه الأهم ولا كذلك في البسملة فان الفعل المقدر كائنا ما كان إنما يقدر بعدها، ولو قدر قبل الاسم لفات الغرض من قصد الابتداء إذاً على أنه الأهم في البسملة، فوجب تقديره، وسيأتى الكلام على هذه النكتة.
(٢) .
ونار قد حضأت بعيد وهن … بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة وعين … أكاليها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون أنتم … فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم … زعيم نحسد الانس الطعاما
لقد فضلتم في الأكل فينا … ولكن ذاك يعقبكم سقاما
لسمير بن الحارث الضبي، وقيل لتأبط شراً، وقيل لشمر الغساني، وقيل للفرزدق يصف نفسه بالجرأة واقتحام المخاوف، يقول: ورب نار قد حضأتها بالحاء المهملة: أشعلتها وسعرتها، وقيل هو خضأتها، بالمعجمة، ولا أعلمه وإن ذكره بعض النحاة في باب الحكاية، وبعيد: تصغير بعد، والوهن والموهن: بمعنى الفتور أو النوم أو هدوء الصوت، وقيل: نحو نصف الليل. أى أوقدتها في جوف الليل في مفازة لا أريد إقامة بها سوى تجهيز ما يلزم لراحلتى في السفر ولأجل عين أكاليها أى أساهرها أو أحافظها، فأنا أحفظها من النوم وهي تحفظني من العدو، والضمير في أتوا: لمبهم.
ومنون استفهام، وكان حقه: من أنتم، لأنه لا يأتى بصورة الجمع إلا في الوقف، والأصل في نونه الأخيرة السكون للوزن، على أن إجراء الوصل مجرى الوقف كثير في النظم كما صرحوا به وجعلوا هذا منه، وكأن هناك قول مقدر مثل «جئناك» فحكى إعراب ضمير الفاعل فيه حتى يظهر استشهاد يونس به في الحكاية. فقالوا: نحن الجن. وكان الظاهر:
فقلت عموا. ولكن أتى به مستأنفاً جواب سؤال مقدر تقديره: فماذا قلت لهم؟ فقال: قلت عموا، أى تنعموا في وقت الظلام، وعطف قوله «فقلت» بالفاء دلالة على التعقيب، وأما رواية «عموا صباحا» فمن قصيدة أخرى تعزى إلى خديج بن سنان الغساني ومنها:
نزلت بشعب وادى الجن لما … رأيت الليل قد نشر الجناحا
وشبه الليل بطائر، فأثبت له ما للطائر، أو شبه الظلمة بالجناح. وقوله «إلى الطعام» أى هلموا وأقبلوا إليه. دل المقام على ذلك، فقال زعيم منهم، أى سيد وشريف: نحن نحسد الانس في الطعام أو على الطعام، فهو نصب على نزع الخافض، ويجوز أنه بدل، ويجيء «حسد» متعديا لاثنين، والطعاما: مفعوله الثاني. وقال الجوهري: الأنس هنا بالتحريك: لغة في الانس، ويجوز قراءته «الانس» على اللغة المشهورة. لقد فضلتم عنا في الأكل حال كونكم فينا أى فيما بيننا، ولكن ذاك يلحقكم سقاما في العاقبة. وهذا كله من أكاذيب العرب.