للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ … وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِى «١»

لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه:

فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ … بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ

إذَا الشّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاها … تَنفّقْناهُ بالحُبُلِ التُّوَامِ «٢»

أى إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم. يريد: إذا حردت «٣» وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها. استعار التقصيع أوّلا، ثم ضم إليه التنفق، ثم الحبل التوام. فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلا لخسارهم وتصويراً لحقيقته. فإن قلت: فما معنى قوله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) . قلت: معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم


(١) . شبه الشيب بالنسر بجامع البياض، واستعاره له تصريحاً. وشبه الشباب بالغراب- وهو ابن داية- بجامع السواد كذلك. وعزه يعزه عزاً، كنصره نصراً: إذا غلبه وقهره. والتعشيش في الوكرين ترشيح للاستعارتين، والمراد بهما الرأس واللحية. ويحتمل أن التركيب كله استعارة تمثيلية. يقول: لما رأيت الشيب غلب الشباب وحل محله، تحرك لأجله قلبي واضطرب، فالصدر مجاز. ويروى: جاشت له نفسي.
(٢) . دلت المرأة وأدلت: حسن تمنعها مع رضاها. ودلت وأدلت أيضاً: تغنجت وتشكلت. والاسم: الدل، والدالة، والدلال. وقيل: هو قريب من معنى الهدى. ومنه: كانوا ينظرون إلى هدى عمر ودله فيتشبهون به. ونفى علمها بأخلاق الكرام: كناية عن إساءتها الخلق. ويروى: بقائله بأخلاق الكرام، أى بمكترثة ولا معتنية بها، أو ليست فاعلة لها والمال واحد. وقصع اليربوع: اتخذ القاصعاء أو دخل فيها، وهي جحره الذي يدخل فيه. وتنفق: اتخذ النافقاء أو خرج منها، وهي الطرف الثاني من الجحر الذي يخرج منه. وتنفقه الصائد: استخرجه منها، فلجحره بابان إذا أتاه الصائد من الأول خرج من الثاني فاستعار التقصيع الذي هو فعل اليربوع لدخول الشيطان في قفاها، واستعار التنفق لإخراجه منه على طريق التصريحية والثانية ترشيح للأولى وبالعكس. والحبل: جمع حبال جمع حبل ككتب جمع كتاب. والتوام: الثني من الحبل، وجمعه: توائم، وتوام كغراب. أى بالحبل المثناة المفتولة، وهي على رواية الحبل بالافراد، فيخرج على أن التوام ليس جمعاً بل اسم جمع يعامل معاملة المفرد، أى بالحبل القوى لأنه مجموع حبال مفتولة، وهذا ترشيح للتنفق وترشيح الترشيح ترشيح، فيكون ترشيحاً للتقصيع أيضاً، والحبال من ملائمات التنفق في نحو الاصطياد. ويجوز أن يشبه الشيطان باليربوع، فإذا أردنا اصطياده من جهة هرب من جهة أخرى حتى نصطاده بأقوى حيلة، فتكون مكنية والتقصيع والتنفق بالحبل تخييل. وجعل ذلك كله في قفاها لأن الحمق ينسب إليه عادة، أو لأن الشيطان يأتيها من حيث لا تشعر، كأنه من خلفها. ثم إن هذا الكلام كناية أو تمثيل للمراد، وهو أنها إذا أساءت الخلق ترضيناها بالتحيل والترفق.
(٣) . قوله «يريد إذا حردت» في الصحاح: الحرد- بالتحريك- الغضب (ع)