للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين: معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه، ووقوعها عوضا مما يستحقه أىّ من الإضافة. فان قلت: لم كثر في كتاب اللَّه النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة: لأن كل ما نادى اللَّه له عباده- من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه- أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان- عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون.

فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. فإن قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجها إلى المؤمنين والكافرين جميعاً، أو إلى كفار مكة خاصة، على ما روى عن علقمة والحسن، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو إلا كقول القائل:

فلَوَ انِّى فَعَلْتُ كُنْتُ مَنْ تَسْأَلُهُ … وهُوَ قائمٌ أنْ يَقُوما «١»

وأما الكفار فلا يعرفون اللَّه، ولا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ قلت: المراد بعبادة المؤمنين: ازديادهم منها وإقبالهم وثباتهم عليها. وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد لها منه وهو الإقرار. كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرهما وما لا بد للفعل منه، فهو مندرج تحت الأمر به وإن لم يذكر، حيث لم ينفعل إلا به، وكان من لوازمه. على أنّ مشركي مكة كانوا يعرفون اللَّه ويعترفون به (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . فان قلت: فقد جعلت قوله: (اعْبُدُوا) متناولا شيئين معاً: الأمر بالعبادة، والأمر بازديادها. قلت: الازدياد من العبادة عبادة وليس شيئاً آخر. فإن قلت: (رَبَّكُمُ) ما المراد به؟

قلت: كان المشركون معتقدين ربوبيتين: ربوبية اللَّه، وربوبية آلهتهم. فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أربابا وكان قوله الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة موضحة مميزة. وإن كان الخطاب للفرق جميعاً، فالمراد به «ربكم»


(١) .
نعمة اللَّه فيك لا أسأل … اللَّه إليها نعمي سوى أن تدوما
فلو انى فعلت كنت كمن … تسأله وهو قائم أن يقوما
النعمة بالكسر، والنعمى بالضم، وكذلك النعماء بالفتح بمعنى واحد. يقول: نعمة اللَّه علينا فيك كافية لا نطلب من اللَّه نعمة أخرى منضمة إليها، سوى أن تدوم هي أو أنت أو أنتما. فلو انى- بالنقل للوزن- فعلت، أى سألت اللَّه غيرها كانت حالى مع اللَّه كحالك مع من تسأله القيام وهو قائم، فهو تشبيه مركب، وإلا فهو سائل ومن تسأله مسؤل. يعنى أن السؤال يكون تحصيلا للحاصل، لأنه لا نعمة سواها أعظم منها في ظنه. وفيه مبالغة في تعظيمها.