(كتاب الأضداد)
وأُقَدِّمُ فصلا دَقِيقًا نَافِعًا فِي هَذَا الْبَاب على مَا ذكر سِيبَوَيْهٍ فِي أوّل كِتَابه حِين قَالَ: اعْلَم أَن من كَلَامهم اختلافَ اللَّفْظَيْنِ لاخْتِلَاف الْمَعْنيين وَاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ وَالْمعْنَى وَاحِد واتفاق اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَاف الْمَعْنيين وَأَنا أشرح ذَلِك كُله فصلا فصلا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وأَتَحَرَّى فِيهِ أَشْفى مَا سَقَط إليَّ من تَعْلِيل أبي عَليّ الْفَارِسِي: اعْلَم أَن اخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ لاخْتِلَاف الْمَعْنيين هُوَ وَجه الْقيَاس الَّذِي يجب أَن يكون عَلَيْهِ الأَلِفاظ لِأَن كل معنى يخْتَص فِيهِ بِلَفْظ لَا يَشْرَكُه فِيهِ لفظ آخر فتنفصل الْمعَانِي بألفاظها وَلَا تَلْتَبِس وَاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ والمعاني بعد واحدةٌ للْحَاجة إِلَى التّوسُّع بالألفاظ وبَيِّنٌ أَن هَذَا الْقسم لَو لم يُوجد من الاتساع مَا يُوجد بِوُجُودِهِ إلاّ ترى أَنه إِذا سَجَع فِي خُطبة أَو قَفى فِي شِعر فرَكَّبَ السّين قَالَ فجَاء بِهِ مَعَ مَا يشاكله وَلَو لم يقل فِي هَذَا الْمَعْنى إلاّ بعد ضَاقَ الْمَذْهَب فِيهِ، وَمن هُنَا جَاءَت الزّيادات فِيهِ لغير الْمعَانِي فِي كَلَامهم نَحْو حَباب وعَجوز وقَضيب فِيمَا حُكيَ لنا عَن مُحَمَّد بن يزِيد وَأَيْضًا فَإِذا أَرَادَ التّأكيد قَالَ: قَعَد وجَلَس فَتكون الْمُخَالفَة بَين الأَلِفاظ أسهل من إِعَادَتهَا أَنْفسهَا وتكريرها إلاّ ترى فِي التّنزيل: (وغَرابيبُ سُود) والغرابيب هِيَ السّود عِنْد أهل اللُّغَة فحَسُن التّكرير لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ وَلَو كَانَ غرابيب لم يكن سهلاً وَأما الْقسم الثّالثّ وَهُوَ اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَاف الْمَعْنيين فَيَنْبَغِي أَن لَا يكون قصدا فِي الْوَضع وَلَا أصلا لَهُ وَلكنه من لُغات تَداخلت أَو تكون كل لَفْظَة تسْتَعْمل بِمَعْنى ثمَّ تستعار لشَيْء فتكثر وتغلب فَتَصِير بِمَنْزِلَة الأَصْل، قَالَ: وَقد كَانَ أحد شُيُوخنَا يُنكر الأضداد التّي حَكَاهَا أهل اللُّغَة وَأَن تكون لفظةٌ واحدةٌ لشَيْء وضِدُّه وَالْقَوْل فِي هَذَا أَنه لَا يَخْلُو فِي إِنْكَار ذَلِك وَدفعه إِيَّاه من حجَّة من جِهَة السّماع أَو الْقيَاس وَلَا يجوز أَن تقوم لَهُ حجةٌ تُثبت لَهُ دلَالَة من جِهَة السّماع بل الْحجَّة من هَذِه الْجِهَة عَلَيْهِ لِأَن أهل اللُّغَة كَأبي زيد وَغَيره وَأبي عُبَيْدَة والأصمعي وَمن بعدهمْ قد حكوا ذَلِك وصُنِّفت فِيهِ الْكتب وذكروه فِي كتبهمْ مجتمعاً ومفترقاً فالحجة من هَذِه الْجِهَة عَلَيْهِ لَا لَهُ فَإِن قَالَ الحجةُ تقوم من الْجِهَة الْأُخْرَى وَهِي أَن الضّد بِخِلَاف ضِدّه فَإِذا اسْتعْملت لَفْظَة وَاحِدَة لَهما جَمِيعًا وَلم يكْسب كل وَاحِد من الضّدين لفظا يتَمَيَّز من هَذِه ويتخلص بِهِ من خِلَافه أَشْكَلَ وأَلْبَس فعٌلِم الضّدُّ شكلاً والشّكلُ ضداً والخلافُ وِفاقاً وَهَذِه نِهَايَة الإِلباس وَغَايَة الْفساد، قيل لَهُ: هَل يجوز عنْدك أَن تَجِيء لفظتان فِي اللُّغَة متفقتان لمعنيين مُخْتَلفين فَلَا يَخْلُو فِي ذَلِك أَن يجوّزه أَو يمنعهُ فَإِن مَنعه وردّه صَار إِلَى ردِّ مَا يعلم وجوده وقبولُ الْعلمَاء لَهُ وَمنع مَا ثَبت جَوَازه وشُبِّهت عَلَيْهِ الأَلِفاظ فَإِنَّهَا أَكثر من أَن تُحصى وتُحصَر نَحْو وَجَدْتُ الَّذِي يُرَاد بِهِ الْعلم والوِجْدان والغَضَب وجَلَسْت الَّذِي هُوَ خلاف قمتُ وجَلَسْتُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنى أتيتُ نَجْداً ونَجْدٌ يُقَال لَهَا جَلْس فَإِذا لم يكن سَبِيل إِلَى الْمَنْع من هَذَا ثَبت جَوَاز اللَّفْظَة الْوَاحِدَة للشَّيْء وخلافه وَإِذا جَازَ وُقُوع اللَّفْظَة الْوَاحِدَة للشَّيْء وخلافه جَازَ وُقُوعهَا للشَّيْء وضدّه إِذا الضّدُّ ضَرْبٌ من الْخلاف وَإِن لم يكن كل خلاف ضدَّاً وَأما كَون اللَّفْظَيْنِ الْمُخْتَلِفين لِمَعْنى وَاحِد فقد كَانَ مُحَمَّد بن السّرِيّ حكى عَن أَحْمد بن يحيى أَن ذَلِك لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute