وأكب بَعْضهُمْ على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة فحمل مَنْهَا حمله فَلَمَّا جَاءَ لم يجد فِي السَّفِينَة إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلاً عَلَيْهِ، ووبالاً ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بدًا ولم يجد لَهُ فِي السَّفِينَة مَوْضِعًا، فحمله على عنقه وندم على أخذه، فَلَمْ تنفعه الندامة، ثُمَّ ذبلت الأزهار، وتغيرت أريحها وآذاه نتنها.
وتولج بَعْضهُمْ فِي تلك الغياض، ونسي السَّفِينَة، وأبعد فِي نزهته، حَتَّى إن الملاح نادى بِالنَّاسِ، عِنْدَ دفع السَّفِينَة، فَلَمْ يبلغه صوته، لاشتغاله بملاهيه، فهو تَارَّة يتناول من الثمر وتَارَّة يشم تلك الأزهار وتَارَّة يعجب من حسن الأشجار.
وهو على ذَلِكَ خائف من سبع يخَرَجَ عَلَيْهِ، غير منفك من شوك يتشبث فِي ثيابه، ويدخل فِي قدميه أَوْ غصن يجرح بدنه أَوْ عوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، أَوْ صوت هائل يفزعه.
ثُمَّ من هؤلاء من لحق بالسَّفِينَة، ولم يبق فيها موضع، فمَاتَ على الساحل، وَمِنْهُمْ من شغله لهوه، فافترسته السباع ونهشته الحيات وَمِنْهُمْ من تاه فهام على وجهه حَتَّى هلك، فهَذَا مثال أَهْل الدُّنْيَا فِي اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وَمَا أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هَشِيمًا.
المثال الرابع: لاغترار النَّاس بالدُّنْيَا، وضعف إيمانهم بالآخِرَة أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «إِنَّمَا مثلي ومثلكم ومثل الدُّنْيَا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حَتَّى إِذَا لم يدروا مَا سلكوا مَنْهَا أَكْثَر أم مَا بقي، أنفذوا الزَّاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زَادَ ولا حمولة، فأيقنوا بِالْهَلَكَةِ.