للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أحسن وأنبل وأفخم «١» من أن يكون بيانا واحدا. ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه، وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر، إذا علم أنه قطع ميلا، أو طوى فرسخا، أو انتهى إلى رأس بريد: نفس ذلك منه ونشطه للسير. ومن ثم جزأ القرّاء القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا وأخماسا. ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة «٢» ، اعتقد أنه أخذ من كتاب اللَّه طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه ويغتبط به.

ومنه حديث أنس رضى اللَّه عنه: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد فينا «٣» » ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. ومنها أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع مِنْ مِثْلِهِ متعلق بسورة صفة لها أى بسورة كائنة من مثله. والضمير لما نزلنا «٤» ، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: (فَأْتُوا) والضمير للعبد. فإن قلت: وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت: معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم. أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. ولكنه نحو قول القبعثرى للحجاج- وقد قال له: لأحملنك على الأدهم-: مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. أراد


(١) . قوله «وأنبل وأفخم» أى أفضل وأعظم. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) . قوله «إذا حذق السورة» حذق الشيء، أى مهر فيه. أفاده الصحاح. (ع)
(٣) . هذا طرف من حديث أخرجه أحمد وابن أبى شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس رضى اللَّه عنه «أن رجلا كان يكتب للنبي صلى اللَّه عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا- أى عظم: الحديث» . وأخرجه ابن حبان من هذا الوجه بلفظ «عد فينا ذو شأن» وقد ذكره الجوهري في الصحاح من حديث أنس رضى اللَّه عنه بلفظ المصنف. وأصله عند البخاري من رواية عبد العزيز ابن صهيب. وعند مسلم في رواية ثابت، كلاهما عن أنس دون القدر الذي اقتصر عليه المصنف. ولم يصب الطيبي في عزوه له إلى الصحيحين. وعزاه الزمخشري في تفسير الجن إلى رواية عمر رضى اللَّه عنه أيضا كما سيأتى.
(٤) . قال محمود رحمه اللَّه: «الضمير يحتمل عوده لما نزلناه … الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: ومعنى هذا الترجيح أن المتحدى عليهم في التفسير الأوجه جملة المخاطبين، أى أنهم باجتماعهم ومظاهرة بعضهم بعضا، عجزة عن الإتيان بطائفة منه. وأما على التفسير المرجوح، فهم مخاطبون بأن يعينوا واحداً منهم يكون معارضاً للمتحدى بأنه يأتى بمثل ما أوتى به أو ببعضه. ولا شك أن عجز الخلائق أجمعين أبهى من عجز واحد منهم. ويشهد لرجحان الأول قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)