للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد. ولم يقصد أحدا يجعله مثلا للحجاج. وردّ الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) . (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) ، (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى المنزل أحسن ترتيبا.

وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه، وهو مسوق إليه ومربوط به، فحقه أن لا يفك عنه برد الضمير إلى غيره. ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزل من عند اللَّه. فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله ويجانسه. وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقال: وإن ارتبتم في أنّ محمداً مُنزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. ولأنهم إذا خوطبوا جميعاً- وهم الجم الغفير- بأن يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم، كان أبلغ في التحدّى من أن يقال لهم: ليأتى واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد، ولأنّ هذا التفسير هو الملائم لقوله: (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة. ومعنى (دون) أدنى مكان من الشيء. ومنه الشيء الدون، وهو الدنىّ الحقير، ودوّن الكتب، إذا جمعها، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها. يقال: هذا دون ذاك، إذا كان أحط منه قليلا. ودونك هذا: أصله خذه من دونك. أى من أدنى مكان منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم. ومنه قول من قال لعدوّه «١» وقد رآه بالثناء عليه: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك، واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم.

قال اللَّه تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أى لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية:

يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِى «٢»


(١) . أخرجه البزار من رواية على بن أبى ربيعة قال: «جاء رجل إلى على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه، فجعل يثنى عليه. وكان يبلغه عنه خلاف ذلك. فقال: أنا دون هذا الذي تقوله ولكنى فوق ما في نفسك» .
(٢) .
يا نفس مالك دون اللَّه من واق … ولا للسع بنات الدهر من راق
لأمية بن أبى الصلت يقول: يا نفس ليس لك حافظ دون اللَّه، أى متجاوز اللَّه، أو متجاوزة اللَّه، فهو حال من الواقي أو من النفس. واستعار البنات للحوادث يجامع ملازمة كل لمنشئه على طريق التصريحية، ثم شبه الحوادث بالأفاعى بجامع إيذاء كل لغيره على طريق المكنية ولسعها تخييل. ويجوز أنه استعار اللسع للاصابة على طريق التصريحية.
ولراقى طبيب اللسع. ومن زائدة في الموضعين لتوكيد الاستغراق: أى لا حافظ لك إلا اللَّه، ولا جابر لك إلا هو. [.....]