للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة. فإن قلت:

كيف قيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل «١» . وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابها، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وَأُتُوا بِهِ؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأنّ قوله: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) أى بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله: غنيا أو فقيرا على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقا، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملى تعجبهم، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى في غير أخدود، والعنقود اثنتا عشرة


(١) . قال محمود رحمه اللَّه: «معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل … الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا من التشبيه بغير الأداة، وهو أبلغ مراتب التشبيه، كقولهم: أبو يوسف أبو حنيفة.