للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقالوا: أجمع من ذرّة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد، وأصرد من جرادة «١» ، وأضعف من فراشة، وآكل من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوض. وكلفتنى مخ البعوض. ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة، كالزوان والنخالة «٢» وحبة الخردل، والحصاة، والأرضة، والدود، والزنابير. والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغنى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمى لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معوّلا. وعن الحسن وقتادة: لما ذكر اللَّه الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام اللَّه.

فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية.

والحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم. واشتقاقه من الحياة.

يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسى وحشى وشظى الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء «٣» جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغير، منتكس القوّة منتقص الحياة، كما قالوا: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء. وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلا. فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به «٤» ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن اللَّه حي كريم «٥» يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» . قلت:


(١) . قوله «وأصرد من جرادة» في الصحاح: صرد الرجل بالكسر فهو صرد ومصراد: يجد البرد سريعا (ع)
(٢) . قوله «كالزوان والنخالة» في الصحاح: الزوان حب يخالط البر (ع)
(٣) . قوله «إذا اعتلت هذه الأعضاء» عرق النسا والحشا والشظى. وفي الصحاح: الشظى عظم مستدق ملزق بالذراع، فإذا تحرك في موضعه قيل: قد شظى الفرس (ع)
(٤) . قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت كيف جاز وصف اللَّه تعالى بالاستحيائية … الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه:
ولقائل أن يقول: ما الذي دعاه إلى تأويل الآية مع أن الحياء الذي يخشى نسبة ظاهره إلى اللَّه تعالى مسلوب في الآية كقولنا: اللَّه ليس بجسم ولا بجوهر في معرض التنزيه والتقديس. وأما تأويل الحديث فمستقيم، لأن الحياء فيه ثبت للَّه تعالى. وللزمخشري أن يجيب بأن السلب في مثل هذا إنما يطرأ على ما يمكن نسبته إلى المسلوب عنه. إذ مفهوم نفى الاستحياء عنه في شيء خاص، ثبوت الاستحياء في غيره، فالحاجة داعية إلى تأويله لما أفضى إليه مفهومه.
وإنما يتوجه السؤال لو كان الاستحياء مسلوبا مطلقا، كقولنا: اللَّه لا يحول ولا يزول فان ذلك لا يثبت ومحال، بل يقال: هو مقدس منزه مطلقا،
(٥) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديثه بلفظ «إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً» قال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم ولم يرفعه. وفي الباب عن أنس رضى اللَّه عنه. أخرجه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبان عنه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبان. وأخرجه الحاكم من طريق حفص بن عمر بن عبد اللَّه بن أبى طلحة قال: حدثني أنس بن مالك رضى اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال «إن اللَّه رحيم حى كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه ثم لا يضع فيهما خيراً» وعن جابر أخرجه أبو يعلى. وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر وهو متروك وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أخرجه الطبراني.