للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. وكذلك معنى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيى أن يتمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال. وهو فنّ من كلامهم بديع، وطراز عجيب، منه قول أبى تمام:

مَنْ مُبْلِغٌ أَفْناءَ يَعْرُبَ كُلَّها … أَنِّى بَنَيْتُ الجَارَ قبْلَ المَنْزِلِ؟ «١»

وشهد رجل عند شريح. فقال: إنك لسبط الشهادة. فقال الرجل: إنها لم تجعد عنى. فقال:

للَّه بلادك، وقبل شهادته. فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة. ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار. وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. وللَّه درّ أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسدّ مدارجه. وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه:

إذَا مَا اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نفْسَهُ … كرَعْنَ بِسبْتٍ «٢» في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ «٣»


(١) . لأبى تمام. وفناء الدار: ما امتد من جوانبها، وجمعه أفنية. ويقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم من أى قبيلة هو، أى من أطرافهم. ويعرب: اسم قبيلة، وبناء الجار: اتخاذه، سماه بناء للمشاكلة التقديرية حيث قرنه بما يبنى وهو المنزل وهو مجاز بجامع مطلق الاتخاذ أو علاقته المجاورة الذهنية أو اللفظية، وهذه العلاقة تجرى في كل مشاكلة. ولم يرتضه بعضهم، واختار أنها إن لم يوجد لها علاقة فهي قسم رابع لا حقيقة ولا مجاز ولا كناية.
(٢) . (قوله بسبت في إناء من الورد) في الصحاح: السبت بالكسر جلود البقر المدبوغة بالقرظ اه وهو في البيت مجاز كالإناء من الورد (ع)
(٣) .
كفانا الربيع العيس من بركاته … فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه … كرعن بسبت في إناء من الورد
للمتنبي. والعيس: الإبل. والربيع: المطر. والحداء: الغناء للإبل، والاستثناء متصل على تشبيه الرعد بالحداء، وجعله من أفراده، أى: كفانا حاجة العيس لكثرته، حتى كأنه يعرض نفسه على النوق. ويقال: استحي واستحى كما هنا أى إذا خشين من عرض نفسه عليهن، أو امتنعن منه. وروى «استجبن» بالجيم فالموحدة، أى أطعنه في عرض نفسه عليهن. وجملة «يعرض نفسه» حالية. واستعار السبت بالكسر- وهو الجلد المدبوغ بالقرظ- لمشافر النوق على طريق التصريح. وكذلك استعار الإناء من الورد للبركة التي كثر زهرها ونورها، وإن لم يكن ذلك الإناء موجوداً و «في» بمعنى «من» . ويجوز أنه جعل الأرض ظرفا للشرب.