للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقرأ ابن كثير في رواية شبل (يستحى) بياء واحدة. وفيه لغتان: التعدي بالجارّ والتعدي بنفسه. يقولون: استحييت منه واستحييته، وهما محتملتان هاهنا.

وضرب المثل: اعتماده وصنعه، من ضرب اللبن وضرب الخاتم. وفي الحديث «اضطرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خاتما من ذهب» «١» و (ما) هذه إبهامية «٢» وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعا وعموما، كقولك: أعطنى كتابا مّا، تريد أى كتاب كان. أو ضلة للتأكيد، كالتي في قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) كأنه قيل: لا يستحيى أن يضرب مثلا حقاً أو البتة، هذا إذا نصبت بَعُوضَةً فإن رفعتها فهي موصولة، «٣» صلتها


(١) . أخرجه مسلم من حديث أنس رضى اللَّه عنه.
(٢) . قال محمود رحمه اللَّه: «وما هذه إبهامية … الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: وفيها وهم إمام الحرمين في تقرير نصوصية العموم في قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها … الحديث» فانه قرر العموم والإبهام في أى، ثم قال: فإذا انضافت إليها ما الشرطية كان ذلك أبلغ في اقتضاء العموم، فاعتقد أن المؤكدة هي الشرطية، وإنما هي حرف مزيد لهذا الغرض. وأما «ما» الشرطية فاسم كمن. واللَّه الموفق.
(٣) . قال محمود: «هذا إذا نصبت بعوضة، فان رفعتها فهي موصولة … إلى قوله: ووجه آخر جميل وهو أن تكون … الخ» . قال أحمد: حملها على الاستفهامية بالمعنى الذي قرره: فيه نظر لأن قوله تعالى «فما فوقها» في الحقارة فيكون معناه: فما دونها. وإما أن يراد فما هو أكبر منها حجما. وعلى كلا التقديرين يتقدر الاستفهام لأنه إنما يستعمل في مثل: ما دينار وديناران، أى إذا جاد بالكثير فما القليل. وإذا ذهبت في الآية هذا المذهب لم تجد لصحته مجالا، إذ يكون الراد: إن اللَّه لا يستحي أن يضرب مثلا بالمحقرات، فما البعوضة وما هو أحقر منها. وقد فرضنا أنها في أحد الوجهين نهاية في المحقرات، وفي الوجه الآخر ليست نهاية، بل النهاية في قوله: (فَما فَوْقَها) أى دونها. فإذا حمل ما بعد الاستفهام على النهاية في الوجهين جميعاً لم ينتظم التنبيه المذكور، بل ينعكس الغرض فيه إذ المقصود في مثل قولنا: فلان لا يبالى بعطاء الألوف فما الدينار الواحد- التنبيه على أن إعطاء القليل منه محقق بعطائه الكثير بطريق الأولى، ولا يتحقق في الآية على هذا التقدير أنه لا يستحي من ضرب المثل بالمحقرات التي لا تبلغ النهاية، فكيف يستحي من ضرب المثل بما يبلغ النهاية في الحقارة كالبعوضة. هذا عكس لنظم الأولوية، ولو كانت الآية مثلا واردة على غير هذا التكلم كقول القائل: إن اللَّه لا يستحي أن يضرب مثلا بالبعوضة التي هي نهاية في الحقارة، فما الأنعام التي هي أبهى من البعوضة أو أبعد منها عن الحقارة بما لا يخفى، لكان تقرير الزمخشري متوجها، وما أراه واللَّه أعلم إلا واهما في هذا الوجه. وما طولت النفس ووسعت العبارة في الاعتراض عليه، إلا أنه محل ضيق ومعنى متعاص لا يخلص إلى الفهم إلا بهذا المزيد من البسط. وناهيك بموضع العكس على فهم الزمخشري بل مع تعود فهمه وإصابة نسجه، خصوصا في تنسيق المعاني وتفصيلها واللَّه الموفق. وما تبجحه بالعثور على الوجه الذي ظن أن رؤبة بن العجاج راعاه في قراءته، فكلام ركيك توهم أن القراءة موكولة إلى رأى القارئ وتوجيهه لها ونصرته بالعربية وفصاحته في اللغة، وليس الأمر كذلك، بل القراءة على اختلاف وجوهها وبعد حروفها: سنة تتبع، وسماع يقضى بنقله، الفصيح وغيره على حد سواء، لا حيلة للفصيح في تعسر شيء منه عما سمعه عليه، وما يصنع بفصاحته في القرآن الذي بدد كل فصاحة وعزل كل بلاغة. فالصحيح والمعتقد أن كل قارئ معزول إلا عما سمعه فوعاه، وتلقنه من الأفواه، فأداه إلى أن ينتهى ذلك إلى استماع من أنصح من نطق بالضاد: سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فتأمل هذا الفصل فان فاهمه قليل