للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معمولا عليه، بدليل قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ كقولك: فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، تريد: أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرّا. فإن قلت: كيف موقع لكِنْ وشريطتها مفقودة:

من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا؟ قلت: هي مفقودة من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم، فوقعت، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك. ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفاق «١» ، وسبيله الكناية كما سبق، وكل ذى لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله، وحمل الآية على ظاهرها يؤدّى إلى أن يثنى عليهم بفعل الله، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فإن قلت: فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه، وذلك فعل الله، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود. قلت: الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء «٢» وو سامة المنظر في الغالب، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا: أحسن ما في الدميم وجهه «٣» ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، ولكن لدلالته على غيره. على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير: وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة، وما يتشعب منها ويرجع إليها، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس


(١) . عاد كلامه. قال: «ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والامداد بالتوفيق … الخ» قال أحمد: تلجلج والحق أبلج، وزاغ والسبيل منهج، وقاس الخلق بالواحد الحق، وجعل أفعالهم لهم من إيمان وكفر وخير وشر، اغترارا بحال اعتقد اطراده في الشاهد، وهو أن الإنسان لا يمدح بفعل غيره، وقاس الغائب على الشاهد تحكما، وتغلغل باتباع هوى معجما، فجره ذلك بل جرأه على تأويل الآية وإبطال ما ذكرته من نسبة تحبيب الايمان إلى الله تعالى على حقيقته، وجعله مجازا لأنه يعتقد أنها لو بقيت على ظاهرها لكان خلق الايمان مضافا إلى الله تعالى، والعبد إذا ممدوح بما ليس من فعله. وهذا عنده محال، فأتبع الآية رأيه الفاسد، فإذا عرضت عليه الأدلة العقلية على الوحدانية، والنقلية على أنه لا خالق إلا الله خالق كل شيء، وطولب بابقاء الآية على ظاهرها المؤيد بالعقل والنقل، فانه يتمسك في تأويلها بالحبال المذكورة في التحكم بقياس الغائب على الشاهد، مما له إدلاء إلى تعويج كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالذي نعتقده- ثبتنا الله على الحق- أن الله تعالى منح ومدح وأعطى وامتن، فلا موجود إلا الله وصفاته وأفعاله، غير أنه تعالى جعل أفعاله بعضها محلا لبعض، فسمى المحل فاعلا والحال فعلا، فهذا هو التوحيد الذي لا محيص عنه للمؤمن ولا محيد، ولا بد أن أطارحه القول فأقول:
أخبرنى عن ثناء الله على أنبيائه ورسله بما حاصله اصطفاؤه لهم لاختياره إياهم: هل بمكتسب أم بغير مكتسب، فلا يسعه أن يقول إلا أنه أثنى عليهم بما لم يكتسبوه، بل بما وهبه إياهم فاتهبوه. وإن عرج على القسم الآخر وهو دعوى أنهم أثنى عليهم بمكتسب لهم من رسالة أو نبوة، فقد خرج عن أهل الملة، وانحرف عن أهل القبلة، وهذه البذة كفاية إن شاء الله تعالى.
(٢) . قوله «حسن الرواء» في الصحاح: الرواء- بالضم-: المنظر. (ع)
(٣) . قوله «ما في الدميم وجهه» في الصحاح «الدميم» : القبيح. (ع)