للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد جعلتني من حزيمة أصبعا «١»

فإن قلت: كيف تقدير قوله فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ؟ قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين «٢» ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو على في قوله:

وقد جعلتني من حزيمة أصبعا

أى: ذا مقدار مسافة أصبع أَوْ أَدْنى أى على تقديركم، كقوله تعالى أَوْ يَزِيدُونَ. إِلى عَبْدِهِ

إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر، لأنه لا يلبس، كقوله عَلى ظَهْرِها. ما أَوْحى

تفخيم للوحى الذي أوحى «٣» إليه: قيل أوحى إليه «إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ما كَذَبَ فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أى: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا، لأنه عرفه، يعنى: أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أنّ ما رآه حق وقرئ: ما كذب، أى صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته أَفَتُمارُونَهُ من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة، «٤» كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. وقرئ: أفتمرونه: أفتغلبونه في المراء، من ماريته فمريته، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى، كما تقول: غلبته على كذا: وقيل: أفتمرونه: أفتجحدونه. وأنشدوا:

لئن هجوت أخا صدق ومكرمة … لقد مريت أخا ما كان يمريكا «٥»


(١) .
فأدرك إبقاء العراوة ظلعها … وقد جعلتني من حزيمة أصبعا
للكلحية، وهو لقب لعبد الله بن هبيرة. وقيل: جرير بن هبيرة. وقيل: هبيرة بن عبد مناف. وقيل: هو للأسود بن يعفر. وقيل: لرؤبة وليس بشيء. والإبقاء: ما تبقيه الفرس من الهمة لتبذله قرب بلوغ المقصد.
والعراوة كجرادة. وقيل: بالكسر اسم فرسه. والظلع- بالفتح-: غمز في المشية من وجع الرجل، أى: أدرك الظلع ما أبقته الفرس فلم تقدر على بذله، والحال أنها جعلتني قريبا من عدوى حزيمة بمهملة مفتوحة فمعجمة مكسورة:
رجل كان قد أغار على إبل الشاعر فتبعه. وقيل: قبيلته وليس بذاك. ويروى: فأدرك إرقال العراوة. والإرقال:
الاسراع في السير، أى: أبطل إسراعها العرج، ولا بد من تأويل قوله: جعلتني أصبعا أى: جعلتني ذا مسافة أصبع. أو جعلت مسافتي مقدار أصبع.
(٢) . قال محمود: «تقديره: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين إلى آخره» قال أحمد: وقد قال بعضهم:
إنه كناية عن المعاهدة على لزوم الطاعة، لأن الحليفين في عرف العرب إذا تحالفا على الوفاء والصفاء ألصقا وترى قوسيهما» قال أحمد: وفيه ميل لقوله أَوْ أَدْنى.
(٣) . قال محمود: «هذا تفخيم للوحى الذي أوحى الله إليه» قال أحمد: التفخيم لما فيه من الإبهام، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان، وهو كقوله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى وقوله فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ.
(٤) . قوله «من مرى الناقة» في الصحاح: مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر. (ع)
(٥) . يقول لصاحبه: لئن ذممت أخا صدق ومكرمة، يعنى: نفسه. ويقال: مرى الناقة، أى: حلبها. ومنه المماراة. كأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. ومنه: فقد مريت أخا صدق، أى: غلبته في الجدال وأنفذت ما عنده، لأن من حلب الناقة يتركها يابسة الضرع، أو جحدت حقه كأنك أخذته منه، أو تسببت في إخراج ما عنده، فيذمك كما ذممته. ما كان يمريك، أى: ما كان يفعل بك كذلك.