للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على خفيه وصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه. فقال:

«عمداً فعلته يا عمر» يعنى بياناً للجواز؟ فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب. قلت: لا، لأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض، ثم نسخ. (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً. فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) لأن الإعسار علة الإنذار. وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً. وكذلك (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله إِلَى الْمَرافِقِ و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه «١» . وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المراد إلصاق المسح بالرأس. وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح، كلاهما ملصق للمسح برأسه. فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ما روى: أنه مسح على ناصيته «٢» .

وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب «٣» ، فدل على أن الأرجل مغسولة


(١) . أخرجه الدارقطني من حديث جابر «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه» وإسناده ضعيف.
(٢) . أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة في قصة فيها «ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه» وللطبراني من حديثه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته» .
(٣) . قال محمود: «قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب … الخ» قال أحمد: ولم يوجه الجر بما يشفى الغليل.
والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما إمساس بالعضو فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم، كقوله:
متقلدا سيفاً ورمحا و … علفتها تبناً وماء باردا
ونظائره كثيرة. وبهذا وجه الحذاق، ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منها الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار. وتوكيد الفائدة بما ذكره الزمخشري وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه، كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد باشراكه الأرجل مع الممسوح، ونبه بهذا التشريك- الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا- على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة، وهذا تقرير كامل لهذا المقصود، واللَّه أعلم.