وَمِنْهُم من يُقَدِّر أَنْشُدُكَ بِعَمْرِكَ اللهَ فَيجْعَل الفعلَ أَنْشُدَكَ وهم يستعملون الْبَاء فِي هَذَا الْمَعْنى فَيَقُولُونَ أَنْشُدُكَ باللهِ فَإِذا حُذِفَ الباءُ وَصَلَ الفِعْلُ ويُصَرِّفُونَ مِنْهُ الفعلَ فَيَقُولُونَ عَمَّرْتُكَ اللهَ على معنى ذَكَّرْتُكَ اللهَ وسألتُكَ بِاللَّه قَالَ الشَّاعِر:
(عَمَّرْتُكِ اللهَ إِلَاّ مَا ذَكَرْتِ لَنَا ... هَلْ كُنْتِ جارَتَنَا أَيَّامَ ذِي سَلَم)
وَقَالَ آخر:
(عَمَّرْتُكَ اللهَ الجَلِيلَ فَإِنَّنِي ... أَلْوِي عَلَيْكَ لَو أنَّ لُبَّكَ يَهْتَدِي)
وَأما نصب اسْم الله الْجَلِيل بعد عَمْرَكَ اللهَ فَلِأَنَّهُ مفعول الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ أَسأَلك بتذكيرك اللهَ أَو بوصفك اللهَ بِالْبَقَاءِ وَقد أجَاز الْأَخْفَش رَفعه على أَن الْفَاعِل للتذكير هُوَ كَأَنَّهُ قَالَ أَسأَلك بِمَ أُذَكِّرُكَ اللهَ بِهِ وقِعْدَك بِمَعْنى عَمْرَك وَفِيه لُغَتَانِ يُقَال قِعْدَكَ اللهَ وَقَعِيدَكَ قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ مُتَمِّم بن نُوَيْرَة:
(فَقِعْدكِ أَن لَا تُسْمِعِينِي مَلَامَةً ... وَلَا تَنْكَئِي قَرْحَ الفُؤَادِ فَيِيجَعَا)
وَقَالَ آخر:
(قَعِيدَكُمَا اللهَ الَّذِي أَنْتُمَا لَهُ ... أَلَمْ تَسْمَعَا بالبَيْضَتَيْنِ المُنَاديَا)
وَمَعْنَاهُ أَسأَلك بِقِعْدِكَ اللهَ وبِقَعِيدِكَ اللهَ وَمَعْنَاهُ بِوَصْفِكَ اللهَ بالثَبَاتِ والدَّوامِ وَهُوَ مَأْخُوذ من الْقَوَاعِد الَّتِي هِيَ الْأُصُول لما يَلْبَثُ ويَبْقى وَلم يُصَرَّفْ مِنْهُ فَيُقَال قَعَّدْتُكَ اللهَ كَمَا يُقَال عَمَّرْتُكَ اللهَ لِأَن العَمْرَ فِي كَلَام الْعَرَب مَعْرُوف وَهِي كَثِيرَة الِاسْتِعْمَال لَهُ فِي الْيَمين فَلذَلِك تَصرَّفَ وكثرتْ موَاضعه وَأما جوابُ عَمْرَك اللهَ وقِعْدَكَ اللهَ ونَشَدْتُكَ الله فَإِنَّهَا تكون بِخَمْسَة أَشْيَاء: بالاستفهام وَالْأَمر وَالنَّهْي وأنْ وإِلَاّ ولَمَّا وَالْأَصْل فِي ذَلِك نَشْدْتُكَ اللهَ أَي سأَلتُكَ بِهِ وطلبتُ مِنْك بِهِ لِأَنَّهُ يُقَال نَشَدَ الرجلُ الضَّالَّةَ إِذا طلبَهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(أَنْشُدُ والباغِي يُحِبُّ الوِجْدَانْ ... )
أَي أطلبُ الضالَّة والطالبُ يحب الْإِصَابَة وجُعِلَ عَمْرَكَ الله وقِعْدَكَ اللهَ فِي معنى الطَّلَبِ وَالسُّؤَال كنَشَدْتُكَ اللهَ فَكَانَ جوابُها كُلِّها مَا ذكرتُ لَك لِأَن الْأَمر وَالنَّهْي والاستفهام كلهَا بِمَعْنى السُّؤَال والاستدعاء وَكَذَلِكَ أَن لِأَنَّهُ صلَة الطَّلَبِ كَقَوْلِك نَشَدْتُكَ اللهَ أَن تقوم وَكَذَلِكَ تقُولُ نَشَدْتُكَ اللهَ قُمْ ونَشَدْتُكَ اللهَ لَا تَقُم قَالَ الشَّاعِر:
(عَمْرَكِ اللهَ ساعةَ حَدِّثِينَا ... ودَعِينَا مِنْ ذِكْرِ مَا يُؤْذِينَا)
وَقد مر: " فَقِعْدَكِ أَن لَا تُسْمِعِيني " فَجعل الْجَواب بِأَن لِأَنَّهُ فِي معنى الطّلب وَالْمَسْأَلَة وعَمَّرْتُكَ اللهَ إلَاّ كَمَا تَقول باللهِ إِلَاّ فَعَلَتْ كَذَا وَكَذَا ومثلُ مَا ينْتَصب من ذَلِك قَوْلُكَ للرجل سَلَاماً أَي تَسَلُّماً مِنْك وعَلى هَذَا قولُه عز وَجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما} [الْفرْقَان: ٦٣] مَعْنَاهُ بَرَاءَة مِنْكُم لِأَن هَذِه الْآيَة فِي