إذا كنا نجد في تاريخ أوروبا في عصر إصلاحها الديني آثار العوامل التي أحدثتها المسيحية الكاثوليكية لرقي المدينة وتقدمها، فإن في تاريخ أمريكا إذا نحن خبرناه اليوم آثاراً كثيرة من آثار العلم.
في مدن القرن السابع عشر أقبل شتيت من الفرنجة وشراذم من أهل الغرب يستوطنون الساحل الغربي للمحيط الأطلانطي، فأما الفرنسيون ففتنتهم أسماط نيوفوندلاند وحيتانها فاتخذوا لهم مستعمرة صغيرة شمال نهر سانت لورانس، وأما إخوانهم الإنجليز والهولانديون والسويديون فاحتلوا ساحل القسم المعروف بإنجلترا الجديدة وفي الولايات الوسطى، وأقام قوم من الهوجينوت في ولايات الكارولينا وأهطع جمع من الأسبان إلى شبه جزيرة فلوريدا أثر إشاعة مفادها أن هناك عيناً تكسب الشارب منها الشباب المقيم.
وكان وراء تخوم تلك القرى التي بناها أولئكم الجوابون أرض واسعة مجهولة يسكنها قوم من الهنود شأنهم التجواب والتجوال، ولم يكن يزيد عددهم من خليج المكسيك إلى نهر سانت لروانس عن مائة وثمانين ألفاً، ومنهم علم أولئك الأوروبيون أن في تلك الأقاليم النائية بحيرات ذات ماء عذب، ونهراً عظيماً يسمونه الميسيسيبي ومنهم من قال أنه يجري في إقليم فرجينيا إلى المحيط الأطلانطي، وقال آخرون أنه يشق شبه جزيرة فلوريدا، وقال غيرهم أنه يدفع إلى المحيط الهادي، واعتقد البعض أنه يدفع إلى خليج المكسيك.
وكأنما هؤلاء المستعمرة إذ خرجوا من بلادهم، وفصلهم المحيط العاصف المزبد، وقطعوا في اختراقه أشهراً عدة، فقد فقدهم العالم، وأضاعتهم معارف الأرض.
على أنه لم يكد ينتهي أجل القرن التاسع عشر حتى أصبح نسل أولئكم المستعمرة الضعفاء قوة من أعظم قوى الأرض.
أسسوا جمهورية جمع سلطانها بين المحيطين. وهزموا مهاجماً من عصرهم، ومحارباً من أهليهم، بجيش يبلغ عديده أكثر من نصف مليون رجل، لا على الورق، بل ساحة الحرب، وميدان القتال، وأجروا في البحر ما يقرب من سبعمائة من جواري الحرب تحمل خمسة آلاف مدفع منها ما هو أثقل مدافع الأرض وزناً، وتبلغ حمولتها نصف مليون طن، ولقد صرفوا في سبيل الذود عن حياتهم القومية في أقل من خمسة أعوام ما يربي على أربعة ملايين من الريالات، وقد ظهر من تعدادهم أنهم يزيدون بمقدار الضعف في كل خمسة