للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[مطالعات]

الشنقيطي

في أقصى جنوب مراكش - بينها وبين بلاد السنغال - في بهرة صحراء خرساء مقفرة تكاد تأكل الشمس فيها حتى ظلها - تقوم بلاد عجيب أمرها للغاية التي لا وراءها فقد كان المنتظر لمثل هذه البلاد أن يكون قطانها قوماً موحشين بعيدين عن العلم واللغة والأدب وسائر ما يتصل بذلك مما تستتبعه الحضارة والتمدن، وينكره التبدي والتوحش، بيد أن أمر هاتيك البلاد على العكس من ذلك، فهي اليوم كأنها البصرة أو الكوفة بالأمس، أو كأنها جامعة عربية قد انتبذت مكاناً قصياً وتغلغلت في أحشاء الصحراء خشية أن تعدي طلابها عجمة المتحضرين.

- شنقيط وما أدراك ما شنقيط؟ هي ما علمت، هي التي أهدت إلينا أصمعي هذا العصر المأسوف عليه محمد محمود بن التلاميد التركزي المعروف بالشنقيطي، ونحن فقد رأينا هذا الشنقيطي وخالطناه، وقرأنا عليه بإيعاز من المرحوم الشيخ محمد عبده المعلقات السبع وكتاب الكامل للمبرد، ووقفنا منه ومن كثير ممن وقف على جلية أمره على شيء من نوادره وغرائب أطواره وشواذ أخلاقه وما إلى ذلك مما يصح أن يتحف به قراء البيان.

كان هذا الشنقيطي رحمه الله نادرة الفلك في الحفظ والاستظهار، وكان آية في اللغة والحديث وعلم الأنساب، وتلك شنشنة الشنقيطيين جميعاً، ومن ثم كانت القوة المفكرة في أكثرهم مشلولة، وهي سنة طبيعية معقولة، فكلما كانت الحافظة قوية يقضي حاضره، كانت المفكرة ضعيفة مسلوبة نائمة، وهو قانون التعويض يعطي ويمنع، ويقوى من هنا ويضعف من هناك.

انفصل الشيخ من بلاده بادئ ذي بدء وقصد إلى مكة المكرمة واتصل بالشريف عبد الله أمير مكة وقتئذ فأكرمه وقربه إليه ولبث عنده زماناً وكان يحرش بينه وبين علماء مكة حتى وجدوا عليه وصارحوه العداء والشر فلم يطق الإقامة هناك فعمد إلى المدينة المنورة فوقع بينه وبين علمائها كذلك ما سبب تألبهم عليه حتى أخرجوه منها، وكان الرجل لبياض سريرته ونقاء طويته ولأن فطرته الطيبة لم يشبها شيء من المكر والخداع والمداهنة كان آية فيما يسميه المهذبون الشجاعة الأدبية وينعته السواد الأعظم من الناس بالحمق والسفه