للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[آخر زمن]

-

آخر زمن كلمة سيارة بيننا شائعة، ترددها ألسنة الخاصة، وتتشدق بها أفواه السوقة، وتجري كل يوم بين المذهبين، تدور كل حين في حلقات الغوغاء والأميين، وهي تقال في معرض التبرم والتسخط، عند ما يشهد الناس أمراً مستنكراً خارجاً عن سنن المألوف، متمرداً على حكم العرف، منشقاً على مبادئ الأخلاق والآداب، وإذا صح ما يذهب إليه علماء الفيلولوجيا، أي علم اللغات، إن الفكرة تستمد لفظها وأسلوب التعبير عنها من لغة الأمة التي نشأت أول أمرها فيها، فإن كلمة آخر زمن التي خلقتها روح العصر في هذا الجيل الحاضر، هي أكبر دليل على أنا مصابون بالمرض الذي ينطوي تحت معناها، والعلة العُضال التي تدل عليها حروفها، ولكننا في ذلك إنما نتبع أمم العالم وشعوبه، ونئن من الداء المتسود في أقطار الأرض المتحضرة وممالكها، إذ كان الغربيون قد ابتكروا قبلنا للتعبير عن هذا المرض. العصري الذي استبد بكل فروع حياتهم ومدنيتهم كلمة - ومعناها الحرفي (آخر الزمن) ويراد بها في الغرب المعنى الذي يريده المصريون في هذا العصر منها والكلمة كما يتبين للقارئ فرنسية، لأن فرنسا هي التي ظهرت فيها أعراض المرض قبل غيرها، ثم لم تلبث أن انتشرت في أمم الغرب بأجمعها، واجتازت الإقيانوس إلى العالم الجديد ففشت في لغاته، مما يدل على أنها تعبر عن حال المجتمع الإنساني المتحضر في كل بقاع الأرض، ولكن الكلمة في فرنسا مسقط رأسها تتجلى في أتم معانيها وأغراضها، وليست باريس إلا الحاضرة الكبرى لمرض (آخر زمن).

ونحن فإذا بحثنا في قيمة التعبير من حيث لفظه ومبناه فلا نلبث أن نتبين خطأه وفساده، لأن القرن من الزمن لا يجري عليه من مراحل العمر وأدوار السن ما يجري على الناس، فهو ليس مثلنا يبدو وضيعاً في العام الأول من مأته، ثم يشب ويترعرع ويمتلئ ويكتمل، ثم يكتهل ويشيخ ويهرم، ثم يحتضر في آخر يوم من العام المتمم للمائة، اللهم إلا في عالم التخيل والوهم والمجاز، ولكن الناس قد اعتادوا أن يحيلوا انحطاطهم وفشلهم وأمراضهم ومصائبهم ونكباتهم إلى الزمن، متنصلين من تبعة أغلاطهم، رداين إلى الزمن جريرة مفاسدهم، فهم في التبرم من انحطاطهم يقولون (آخر زمن) وكان أوجب أن يقولوا (آخر