بلغنا بالقارئ من ترجمة رجل مصر العظيم، سعد زغلول باشا، منطبق الأمة ومقولها، والمحامي عنها ومذودها إلي تلك الحفلة الكبرى التي أقامها المحامون لتكريمه على أثر انتخابه نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام ١٨٩٢ أي منذ اثنين وعشرين حولاً، وجئنا بالخطبة المؤثرة الرقيقة التي ألقاها المترجم به بين جماعة المحتفلين وفيها تلك الاعترافات البليغة التي فاض بها قلب من تلك القلوب الخفاقة النابضة وجاشت بها نفس من تلك النفوس العبقرية الفياضة، وإن للنفوس لعبقرية هي في أغلب الأحيان، أشد من عبقرية الأذهان، وما عبقرية النفوس إلا قوة الشعور بالواجب، والإيمان بالحق، ومنابذة الباطل، وهي الوحي الإلهي الذي يتنزل على النفوس الخصيبة، فيملؤها روحانية، ويرسل في نواحيها مادة الإحساس الشفاف، وإذا كانت القوة الإلهية لا تكثر في الإنسانية من عداد العبقريين عقولاً وأذهاناً، فما أقل خلقها للعبقريين نفوساً ووجداناً لأن القوة الإلهية تدأب في عملها، وتجد في إخراج قوالبها، على أنك لتهز إليك جذع الشجرة المثمرة، فلا تستطيب من متساقط ثمارها، ولا تستعذب من متناثر بواكرها إلا ثمرة أو ثمرتين، وأنت فتجد أنواع الزهر الذي لا رائحة له ولا عرف، أكثر بأضعاف من أنواع الأزاهر ذات الشذى والأريج إذ كانت لذة الجميل أن لا يكون شائعاً، ولا يروح فاشياً ذائعاً، ولعل أكبر الدلائل على العظمة الإلهية أن تخلق عظيماً واحداً، بين ألوف كلهم صغار، وإن تصور امرأة حسناء وسيمة، في أسرة كل نسائها قباح دميمات، وما أجمل مظهر الخير، وما أروع موقفه، إذا أكتنفه الشر من كل مكان.
كذاك كان نصيب سعد زغلول باشا من عبقرية الذهن، وكذلك كان قسطه من عبقرية النفس، وهما لم يجتمعا في قالب إنساني إلا أحدثا توازناً في جميع عواطفه، فإنك ترى أكثر العبقريين أذهاناً، أقرب إلى الحيوانية من غيرهم، وأشد إسفافاً إلى البهيمية من سواهم، ولو كان أمثال الفردده موسيه وبيرون ونابوليون، عبقريي النفوس، لما هام الأول بحب البغايا، ووصل الفاجرات، وما استرسل الثاني في هوى الغادات الفاتنات، ولا ركب الثالث رأسه،