كثير من قراء البيان قد سمعوا بالفيلسوف الألماني الأشهر آرثر شوبنهور المولود سنة ١٧١٨ والمتوفى سنة ١٨٦٠ وهو شيخ الفلاسفة المتشائمين الذي قد برموا بالحياة وبرمت بهم ولم يروا سبيلاً إلى الخلاص من بلاياها إلا الزهد فيها والرغبة عن ملاذها، وتعاليمه تشبه شيئاً كثيراً من الشبه تعاليم متصوفة المسلمين وتعاليم بوذا وبرهمة، ويشبه من فلاسفة العرب حكيم المعرة أبا العلاء - ومحور فلسفة شوبنهور هذه هو أن الكون وما يحتويه (أعني المادة والزمان والمكان) ما هو إلا خيال لا وجود له إلا في الذهن ولكن له أصلاً وجرثومة هي ما يسميها الفيلسوف (كانت) الألماني العظيم - سلف شوبنهور وأستاذه - الشيء في ذاته ويقول أننا لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف حقيقتها وكنهها ويرمز لها بحرف س على نحو ما يفعل الرياضيون في الرمز للكميات المجهولة، وشوبنهور يزعم أن جرثومة الكون المذكورة التي حار في كنهها كانت حتى رمز لها بحرف س وما هي إلا الإرادة التي نشعر بها في أعماق كياننا ونحس أنها هي القوة الدافعة فينا التي تدفعنا إلى الحركة تارة عن طريق الذهن أي طريق التعقل والتفكير وتارة من تلقاء نفسها كما يشاهد في حركات الجسم غير الاختيارية، وأهمها وظائف الأجهزة الحيوية، وهكذا نرى أن زبدة فلسفته هي أن الدنيا إرادة - أما حقيقتها وكنهها فمجهول، وأما ظاهرها الذي تتجلى فيها وتتراءى فهو ذلك الكون المشتمل على الزمان والمكان والمادة والجماد والنبات والحيوان والإنسان ولكن هذا الكون هو ظاهرة فقط لتلك الجرثومة، والأصل أي الإرادة هو خيال ليس إلا لا وجود له إلا في الذهن، فالحياة في نظر شوبنهور ليست إلا حلماً ولكنه حلم أليم مزعج. وذلك لأنه لما كانت الحياة إرادة فهي إذن رغبة وحاجة، والحاجة كما لا يخفى لا تزال تتطلب الإسكات والإشباع ومعنى هذا هو الحرمان والتلهف وهذان مشفوعان أبداً بالألم. فهو يستدل بهذا على أن معاناة الألم والكمد هو الغرض الذي ترمي إليه الحياة والغاية التي إليها تقصد. قال: إذ لو لم تكن ومكابدة الأسى هو ما ترمي إليه الحياة لكانت الحياة بلا غرض ولا مقصد. إذ من السخف والحماقة أن نعد ذلك المقدار الهائل من الهموم