للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[بؤس العلماء]

قلما ترى الحظ يتنزل لأن يكون أليف العلم وحليف العبقرية. وإن خلاف العلماء والأدباء ليجدون ألف مسلك وسبيل إلى بحبوحة الحظ، وليس لنوابغ الأدب إلا سبيل واحد وهذا يؤدي إلى الشقاء والبؤس. ولوأننا أنشأنا ملجأ للعبقرية مثلما نصنع للضعاف والعجزة لكان أحق ما يكتب على بابه (ملجأ ذوي الداء العضال الذي لا شفاء منه ولا دواء له - داء الأدب والعلم) ولا عار على النبوغ أن تنشأ له ملاجئ ولا سبة. فإنه إذا عجزت الشهرة والصيت عن إنقاذ العبقري من القحط كان من واجب البر والإحسان أن يفعل ذلك. ثم لا تعد هذه الصدقة يدا في عنق البائس العبقري ولا دينا على كاهل ولكنها فريضة لازمة نؤديها في شخصه إلى العبقرية ذاتها.

وإن لمن شر البلية أن نبصر حتى في هذه العصور المستنيرة أناسا قد نبذت أشخاصهم في زوايا الإهمال والنسيان بينما ذكرهم قد ملأ الآفاق. ثم هلكوا بعد ذلك جوعا بينما مصنفاتهم تدر على باعة الكتب بواسع الأرزاق.

وأحاديث أبطال الأدب الحديث في هذا الصدد جمة بقدر ما هي محزنة.

لقد باع العلامة زيلاندر مذكراته الثمينة عن (كاسيوس) بأكله. ومن مأثور قوله (لقد كنت أؤلف وأنا في الثامنة عشرة ابتغاء المجد وها أنا ذا أكتب في الخامسة والثلاثين ابتغاء القوت).

وقد روي عن (سرفانتيس) نابغة إسبانيا وعبقريها المخلد أنه افتقر حتى لم يجد قوت يومه. وروي عن (كاموينز) نابغة البرتغال الأعظم وباقعة دهره المفرد العلم أنه أعوزه القوت فهلك حرمانا في بعض مستشفيات (ليشبونة) وقد شهد مصرعه الرهيب رجل قسيس فسجل هذه الذكرى الأليمة على هامش نسخة من ديوان ذلك النابغة الشاعر محفوظة للآن في مكتبة لندن وها هي: من أكبر دواعي الأسف أن ينال مثل هذا العبقري الأجل هذا الجزاء الأسوأ. لقد رأيته يجود بروحه في بعض مستشفيات ليشبونة وليس يملك ذراعين من كفن يستر جثته. ألا فليتعظ بهذا كل مغرور غافل يقطع دهره وينفق عمره ويفني بصره ويهدم بناء جسده. ويذيب شحمة كبده. بالكد والنصب في الدرس والبحث والمذاكرة) وماذا فعل البرتغاليون بشاعرهم بعد أن قتلوه جوعا وأعدموه بؤسا! وهبوه لقب (عظيم) ومنحوه نعت (عبقري).