للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[عالم العلم]

الإنسانية الأولى

بينما يزهى الإنسان المتحضر الحديث بآدابه وفلسفته وعلومه، وبينا هو يظن أن الأرض قد تبدلت بقوة ابتكاره وابتداعه غير الأرض، وأن الإنسانية قد دانت الكمال الاجتماعي، وبينا نحن نهرف بقوة المثل الأعلى، ونفخر بأننا ذللنا قوى الطبيعة وسخرنا لإرادتنا عناصر الكون، بينا كل هذا يجري في بقعة من الأرض، إذ بأقطار بعيدة المرامي والأنحاء لا تزال تعيش وتنمو في الظلام، ولا تزال تجري مع غرائزها الحيوانية المخيفة الرهيبة، تطلع عليهم الشمس اليوم وتغرب كما كانت تطلع عليهم وتغرب منذ أبعد عهود النشوء، وأنأى أدوار التكوين، كل ذلك ونحن لا نستطيع أن نحرمهم من مشاركتنا في لفظة الإنسانية ولا نخجل بعد ذلك من الإغراق في الزهو والعجب والخيلاء.

حدث أحد قباطنة الإنكليز بعد سفرة طويلة إلى جزر الملانزيا الواقعة بين جزيرة غينيا الجديدة وبين جزر فيجي، غرب القارة الإسترالية، عما شاهد من غرائب الإنسانية المتوحشة، قال: إن أهل هذه الجزر يأكلون الآدميين، ويقطعون جماجمهم، ولا يزال الرجل منهم يعتقد أن من أوجب الواجبات عليه أن يأكل شخصاً عظيم الشأن، قوي الأسر حتى يكتسب من أكله القوة، ويجتني من التهامه الشدة والعظمة.

وإذا اقتتلت طائفتان منهم، اجتهدت كل واحدة منها لتقتل زعيم القبيلة الأخرى فإذا ظفروا بجثته أقاموا عليها وليمة شائقة يقتسمون فيها لحمه بينهم، في فرح شديد كما لو كانوا يقتسمون بينهم ديكاً أو حملاً، وهم يعتقدون أنهم يأكل رجل قوي كهذا يكتسبون قوته وشدة مراسه، وهذه العقيدة الجائعة تجعل مقام الرجل الأبيض محفوفاً بأشد المكاره لأنهم يرون في البيض أقصى حدود الشجاعة والشدة والقوة.

والفخر عندهم كل الفخر أن يعلق الرجل منهم على رأس كوخه العدد الأكبر من الجماجم الآدمية والهامز

والحروب بين قبائلهم لا انقطاع لها، وهي نهاية في الوحشية والهول، حتى اعتاد بعض القبائل أن يبنى جزراً صناعية فوق الصخور في وسط النهار والبحيرات يأوى إليها خلق كثير من نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، خلاصاً بهم من شر القبائل الأخرى المعادية لهم.