للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[سر تدهور العرب]

بقلم الدكتور جوستاف لوبون

إن كثيراً من تلك العوامل التي ذكرناها آنفاً ونحن بسبيل بيان أسباب عظمة العرب ليصح أن نجيء به الآن توضيحاً لأسباب تدهورهم، ويكفينا أن ندخل ذلك العامل الأكبر، والسبب الأعظم، الذي دعوناه فيما مر بك بالظروف، حتى نشهد أوفر الصفات نفعاً، وأكبر المميزات فائدة، تحدث أسوأ النتائج، وأفدح العواقب، وأشأم المغبات، وذلك أمر مشهود في حياة الأفراد كما هو جار في حياة الشعوب، إذ لا ريب في أن الاستعدادات الأخلاقية، والأميال الذهنية، قد تؤيد النجح في وقت معين ثم هي بعد ذلك قد تؤوب في وقت آخر بالخيبة والفشل، وقد أبنت لك فيما تقدم كيف أن الغرائز الحربية. والنزعات العدائية الخلافية، التي ركبها الله في أرواح العرب، أسدل إليهم في عصر الفتح وزمان الغزو، الخدمة الجلى، واليد الطولى، فلما سكنت ثائرة تلك الفتوحات، وهدأت الوقائع، وانتهت الغارات والغزوات، ولم يجد العرب إزاءهم عدواً يساجلونه الحرب، ويطارحونه القتال، إذا هي قد عادت عليهم وبالا، وساءت بهم منهجاً وسبيلاً، وبلغت الفرقة منهم الغاية القصوى، ووصل الانقسام والانشقاق إلى أبعد حدودهما، وما كان الانشقاق إلا من عاداتهم الثابتة المتأصلة، فبدؤا إذ ذاك في تجزئة تلك الدولة وتبديد نظام عقدها، وكان من حق تلك العادات أن تفضي إلى سقوطهم، وما فقدوا اسبانيا وصقلية ألا على الأخص أثر خلافاتهم الأهلية، ومشاحناتهم الداخلية، ولم يتسن للمسيحيين أن يقهروهم على أمرهم، ويخرجوهم من أرضهم، إلا من جراء هذه المنافسات الدائمة، والمنازعات المستمرة.

أما عن أنظمتهم السياسية والاجتماعية فقد أثبتناهما بين الأسباب التي دعت إلى نجحهم السريع، ويصح لنا الآن أن نقول إنها كذلك أحد العوامل التي عملت على سقوطهم، إذ لم يصب العرب رائد النجاح، ولم يفلج الله لهم سهام النصر، ولم يفتحوا أقطار العالم وفجاجه، إلا عند ذلك اليوم الذي عرفوا فيه بفضل ذلك الدين الجديد الذي جاء به محمد، كيف يذعنون إلى حكم قانون ثابت، وينزلون على نير شرع مقرر، وكان ذلك القانون وحده قادراً على جمع ما تبدد من قواهم، وتوطيد ما افترق من أمرهم، وكان نير هذا القانون الصلب الثابت على أحسن حال وأنصف حكم، عندما كانت أنظمة النبي وفاق حاجات