للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[أفكار بليدة]

لمفكر بليد في أوقات بليدة

للكاتب الهزلي الأشهر جيروم ك. جيروم

الذاكرة

إني لأذكر أيام الربيع وقد ... رق النسيم وراق الماء وانسجما

لقد نسيت الأبيات الباقية. وكل ما أذكره هو هذا المطلع من تلك القصيدة القديمة التي كانت أول محفوظاتي - كما أذكر أني كوفئت عليها بأربع بنسات أخذتها (نقوطا) من أفراد الأسرة والضيوف يوم العيد. والذي يؤكد لي أنمها كانت أربعة بنسات لا أقل ولا أكثر أنهم قالوا لي يومذاك (لو صبرت حتى جمعت إلى ما عندك بنسين آخرين لاكتمل لك ستة بنسات) وعلى الرغم من نصوع هذه الحجة الدامغة والبرهان القاطع لم أكترث ولم أحفل فلم تك إلا هنيهة حتى تبددت تلك الثروة في وجوه من التبذير لا أذكرها البتة. وتلك حال ذاكراتي.

أجل تلك حال ذاكرتي وكل ذاكرة بشرية. فقبح الله الذاكرة من ملكة وقبح سوء أثرها ولؤم صنيعها. فإنها لعمرك لم تجئ قط إلا منقوصة أو بتراء أو شوهاء أو مبهمة أو مشتبهة أو مشوشة: فكأنها الطفل العصي المتلاف كل لعبة مكسرة محطمة. ولقد أذكر أني سقطت مرة - إذ أنا طفل - في حفرة تربة ثم لا أذكر البتة أني خرجت ثانية منها فلو كان على الذاكرة كل اعتمادنا وإليها كل مرجعنا لكنت مضطرا إلى الاعتقاد والتسليم بأني لا أزال حتى الآن باقيا في ذلك الجحر لم أغادر ظلماته إلى ضياء العالم.

لعمرك ما الحياة الدنيا إذا رجعنا كرة الطرف في ماضيها سوى رسوم بالية. وأطلال عافية. وخرائب على عروشها خاوية. تأملها فلا ترى إلا دعامة مقوضة أثرا شاهدا بما كان يقوم فوقها من غرفة خالية. وشرفة عالية أو مصراع نافذة - دليلا ناطقا بما كان ثمة من خدر غانية. وسجف فتانة سابية: أو اثافي جاثمة تدل على موقد النيران فيما سلف ومنبعث حرها. ومنبت شررها. وفوق هذا تنبت الأعشاب خضراء صافية وتضفو ظلال النسيان زرقاء ضافية.

لمن دمن تنزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم