بينا نحن نقرأ في كتاب حضارة العرب. ذلك الكتاب القيم الذي أخرجه الفيلسوف البحاثة الدكتور جوستاف لبون. والذي يدأب اليوم في نقله إلى العربية الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود. إذ عثرنا في أخريات صفحاته بمبحث ضاف يكاد يكون فلسفة الكتاب وزبدة مباحثه تناول في القسم الأول منه البحث في الأسباب التي عملت على عظمة العرب وارجع منها ما أرجع إلى القوانين البسيكو لوحيه وأحال ما أحال منها إلى النواميس الطبيعية والاجتماعية. وأفرد القسم الثاني للكلام على أسباب سقوطهم. فآثرنا أن ننشر في هذا العدد القسم الخاص بسر عظمة العرب وفي العدد الثاني القسم الآخر الخصيص بسر سقوطهم: قال الدكتور تحت العنوان المذكور سر عظمة العرب.
نختتم تاريخ حضارة العرب بإلقاء نظرة عامة نجمل بها القول على أسباب عظمة العرب وسر تدهورهم.
فأول عامل مهد السبيل لعظمة العرب وسؤددهم، هو الظروف التي فيها نبغوا، والزمن الذي فيه ظهروا، فإن للظروف عاملاً تمهيدياً يجري على الأفراد جريانه على الشعوب، وله في تكوينهما أكبر الأثر. وإن كثيراً من الصفات والمميزات لا تستطيع ظهوراً ولا رقياً إلا في ساعات مناسبة لها، وظروف موافقة لرقيها. ولا مراء في أن نابوليون ما كان ليصبح سيد أوروبا وعظيمها، لو كان ولد تحت لويس الرابع عشر، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم خرج إلى العالم في عصر عظمة الرومان وإقبال دولتهم وضخم قوتهم، لما استطاع العرب آخر الدهر أن يخرجوا من جزيرة العرب، بل ولأنكرهم التاريخ وظلوا في الخمول يضربون.
ولد محمد الزمان المقرر، والساعة الموافقة، وقلنا أن بظهوره تداعي العالم القديم، في جميع أرجائه، وجملة نواحيه، وما كان ليعوز عصبة النبي ورجاله إلا أن يلمسوا بنيان هذا العالم، فإذا هو أطلال بالية، ودمن عافية.
على أن هدم كيان أمة لا يكفي لتأسيس بناء مدنية، وإن في عجز البرابرة الذين خلفوا على المدنية الرومانية في المغرب، كما خلف عليها العرب في المشرق، الدليلا على صعوبة هذا