للقناعة حداً ولا تحجبه عن نيل غاياته ومطامعه شم الجبال ولا لجج البحار بل حملق إلى السماء يريد استخدامها أيضاً حتى خضعت لمشيئته الأرض وما فيها وما عليها.
بعد ذلك كان حقاً على الشرق أن يترك للغرب تراثه القديم تراث العز والسلطان تراث العلم والعرفان والثروة والسعادة في اليوم الذي تخلى فيه عن تلك الصفات والمميزات التي ضمنت له قديماً جمع هذا التراث.
نعم نام الشرق نوماً عميقاً واستغرق فيه حتى أيقظه من أوروبا ومن أمريكا حركة قوية تحمل عجائب المصنوعات وغرائب المخترعات براً وبحراً وهواء، وأرهقه مناد يناديه كيف حلا لك النومة وهو مر علقم ولذلك الرقاد وهو السم الزعاف، ثم ذكره بنظرية تنازع البقاء وبقاء الأنفع فلقي هذا الصوت في بلاد اليابان آذاناً صاغية وقلوباً واعية في أمة نشيطة كانت خير مثال بتمنى كل شرقي أن يحذو حذوه وأن يتبع خطاه.
رن هذا الصوت في مصر فتداركه هذا الرجل الكبير الجليل القدر المعدود واحداً من اثنين نبغاً في عصره. هو الحاج محمد علي باشا رئيس عائلتنا المصرية الملوكية الكريمة فالتفت للأدبيات والماديات على السواء، ووجه لهما عنايته الفائقة النادرة المثال فانتشل الأمة مما كانت واقعة فيه من المهاوي السحيقة. فالمدارس أنشأها والإرساليات العلمية قررها وتعهدها، والفاويقات من جملة أنواع أسسها وبناها وأنجحها، والترسانات والأرصفة والجسور والترع والقناطر وكل شيء حيوي في البلاد باشره بنفسه واستخدمه لقائده بلاده، والجيش والبحرية قواهما بعد أن رباهما على النسق الحديث المتين، وبأصالة حكمه وحسن درايته وطد الأمن في البلاد وافتتح القسم العظيم من الأقطار السودانية وضمها على بلاده العزيزة. وعليه فإن مصر مدينة بتمدينها الحديث لتلك العائلة الخديوية الكريمة، وتاريخ مدينتها الحديثة مقترن بتاريخ الحكم العلوي من غير مراء ولا نزاع على آخره إلى آخره.