للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أفاقت كل هذه الحركات التمدينية الشرقية الغرب من رقدته الطويلة التي كان تائهاً فيها، كما أيقظت عزيمته التي طال عليها الفتور فارتحل النشيطون من أبنائه إلى بلاد المشرق واغترفوا من بحاره العذبة ومناهله الرطبة كل ما كان غريباً منهم مجهولاً لديهم من أنواع المصنوعات والحرف وأخذوا من ذلك الحين يشمرون عن ساعد جسدهم مشتغلين على الأخص في الماديات متنقلين في الصناعة والتجارة والزراعة والملاجة من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن ومن كامل إلى أكمل.

سار الغرب على هذا النمط المرغوب فيه جداً في جميع مرافق الحياة الضرورية والحالية والكمالية حتى نال من المنعة والقوة والسلطان الدرجة التي هو عليها ألان وسبق الشرق في الماديات بعد أن كان مسبوقاً، وساده بعد ان كان مسوداً وحقق الحكمة الشرقية لكل مجتهد نصيب وعجيب إن الغرب في سيره إلى الحضارة لم يطرق الأنفس الطريق الذي بذل الشرقيون وأجدادهم الكرام مهجهم الغالية في تمهيده وتنسيقه، وهم لوقوف السفكر الشرقي عند الحد الذي وصلت إليه مصنوعاتهم ومتاجرتهم وملاحتهم وعدم تقدمهم فيها إلى الإمام بنفس الخطى السريعة التي خطوها في الأدبيات بوجه أعم، وفي علوم الفلسفة والبلاغة والمنطق وعلم الكلام بوجه أخص، مضافاً إلي ذلك تفريط الخلف في المحافظة على متروكات السلف سيما الماديات منها كانوا قد ضلوا عنه وجعلوا غيرهم من هؤلاء الغربيين الذي كانوا وراءهم فيه بمراحل يسبقونهم إليه واكتفوا بقبول تعويض بسيط تاريخي عما فقدوا بأن نالوا من الغربيين إقراراً لهم بفضل السبق عليهم فيه.

كبا الشرق في الماديات أو وقف ساكناً عند حد جهاد أبنائه الأولين. وخصص النفيس من أوقاته الغالية في الاشتغال بتلك الأدبيات مهملاً الماديات التي عليها قوام الحياة، والتي هي موارد الثروة الحقيقة، فبعد أن كان مطلع شمس الفنون وينبوع الصنائع والعلوم، وبعد أن كان أستاذ الغرب فيها من غير مراء انقلب حاله من أحسن إلى حسن ومن حسن إلى سيء على العكس تماماً من الخطة العمرانية الحديثة التي اختطها الغرب لنفسه، بل أصبح الشرق يلتمس نوره من زهراء الغرب. كل ذلك لأن الشرق وجه التفاته للأدبيات دون الماديات التي أهملها كل الإهمال ولأنه خفف سيره إلى الأمام في وارد الرزق والثروة في حين أن الغرب كان ينهب الأرض نهباً طلباً للاتساع في الممتلكات والمقتنيات لا يعرف