للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حضارة العرب في الأندلس]

الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى مرية

(تابع)

مقامي في مسيني

ولقد أقمت في مسيني ثلاثة أيام بلياليها أنساني فيها أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف بأدبه وظرفه ورقة حاشيته ما يعرو الغريب في البلد النازح من الوحشة والانقباض. ثم علمنا في اليوم الرابع لمقامنا أن قد أرست على ميناء هذا البلد سفينة كبيرة قادمة من القسطنطينية العظمى قاصدة إلى بر الأندلس، فاعتزمت أنا وأبو عبد الله أن نسافر فيها، وكان هذا العزم من تمام فضل الله علينا وحسن توفيقه إذ أصبنا في هذا المركب عند نزولنا فيه منية النفس ومطمح الروح فضل المدنية التي ضرب الدهر بيني وبينها أياماً كانت على قلتها كأنها شهور بل أعوام، وكان معها صاحبتاها علم المدنية وقلم الرومية. وهن كما علمت ممن حذقن الغناء ونبغن فيه بعد أن تعلمنه في المدنية المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذه قلم كما أخبرتني أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس وحملت صغيرة إلى المشرق فوقعت بالمدينة المنورة ولقنت هنالك الغناء، ثم اشترين مع فضل وعلم لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر.

وقد أخبرني فضل أن المراكب الذي كانت فيه لما أرسى على مسيني بعد إرسائه على ريو لشراء ما يحتاج إليه من الميرة والطعام أُلفي في روعها هي ومن معها أن ينزلن في مسيني ويتركن هذا المركب - وهو للأمير عبد الرحمن الناصر - خشية أن يأسره ومن فيه عمال المعز لدين الله الفاطمي لأن بلاد صقلية إحدى ولايات المعز، وقد علمت أن هذا المركب كان قد تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز، فأحفظ المعز هذا الأمر وأخذه منه المقيم المقعد، وحمله على أن يطوي كشحه على الثار من الناصر - ثم أقامت فضل هذه المديدة في فندق من فنادقها، في ربض من أرباضها، فقلت يا عجباً كل العجب:

أليس غريباً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاو ولا نتكلم

أما نبأ هذه السفينة الرومية فذلك أن قسطنطين بن ليون أنبرور الروم (إمبراطور دولة الرمان الشرقية) كان قد أهدى منذ ثمان حجج إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر هدايا