للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حضارة العرب في الأندلس]

الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية

كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة عدوليّه لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر لم ترقط عيني مثلها وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعاً بإنشاء السفن والأساطيل فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يُعمل مثله وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق لتباع هناك ويعتاض عنها فمر بكثير من ثغور البحر الشامي وكان آخر ما مر به الإسكندرية

ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيراً من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الاندلس - وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي وفقيه مصرأحمد ابن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل وقينة اسمها فضل المدينة - وأصل هذه القينة كما أخبرتني لأحدى بنات هرون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة فازادت ثم طبقتها في الغناء ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدينة وصواحب أخرى: وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة - لأن الغريب كما قيل للغريب نسيب - فرأيت منها أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حلوة الشمائل معسولة الكلام ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع والجمال الرائع فكانت ضنع الله لها سلوتنا في سفرنا وكانت تجلو هموم السفر ومرض البحر بما تنفثه بيننا من حين إلى آخر من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب ويرتفع له حجاب القلوب فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:

حديث إذا تخش عيناً كأنه ... إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب

لو أنك تستشفى به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب

ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية تحركت الريح الشرقية نسيماً فاتراً عليلاً ثم غثى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير فبقينا لاعبين