للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[النقد والمناظرة]

روح اللغة وروح الدين

حديث لفيلسوف الشرق وإمامه المرحوم الشيخ محمد عبده

نشأت في هذه الأيام ناشئة من الفتنة اللغوية أرهج في صحفها بالسواد، وأثار فيها نقع المداد، عصبة خفاف الأحلام، ضعاف الأقلام، لا يرون عهدة الخلق في أنفسهم أسراً، ولا رقة الدين في قلوبهم كسراً، وكأنهم منذ درجوا من بيوتهم صغاراً ما عرفوا من اللغة إلا ما تظهره السابلة أو تبطنه الحوانيت بل كأنهم منذ خرجوا من مدارسنا التي تفتح أبوابها كأفواه الخرس - على سعة بدون فائدة - ما عرفوا غير كراسة الإنشاء ولا راضوا من جماح القول غير تلك المجلدات البليدة التي تطير على وجهها في يد الصبي كلما ساطها بلسانه وهو قد يتعتع في أقصر سورة من القرآن، وأصغر عبارة من البيان.

فأولئك لا يطلعون علينا إلا كالجيش يظهر بعد الهزيمة فُلُّهُ، ويذهب كُثره بالمجد ثم يرجع بالخيبة قُلُّه، وقد زعموا أنهم أُرسلوا إلينا بدعوة جديدة في الإصلاح اللغوي فإذا سألتهم ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين يحتفظون بلغة يزعمونها لهم وهي لغة العرب ويحرصون على تاريخ هو تاريخ العرب. ويتأدبون بآداب قديمة هي آداب العرب. وآية لهم أنا نريد أن نجعلهم نبطاً مستعربين أو عربا مستنبطين أو مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟

فسبحانك اللهم لشد ما خذلتهم فتحجروا مما أبحت واسعاً، وشبهوا على الناس أمراً ساطعاً، وما نأمن أن نحن وسعناهم بالحلم، وأغضينا عنهم أعضاء أهل العلم، أن يعودوا فيقولوا وأن لكم ديناً أنتم بعروته مستمسكون، وبحبوته معتصمون، وهو كذلك ليس دسنكم ولا دين آبائكم الأولين وإنما هو دين العرب. . . . ثم أن لكم كتاباً (القرآن) نقرؤه ولا نفهمه لأنه لم ينزل باللغة المصرية بل نزل باللغة المضرية التي هي لغة العرب. ثم لا يكون من هذا الورم إلا أن ينفجر صديداً، وينقلب داثراً جديداً، ويصبح أمراً شديداً، وما أحد عندنا أولى بغصة النصيحة وأن شرق بها وتوجر الملام المرّ وإن اختنق به من هذا المريض بذات قلبه الذي لا يهزأ به فيما نري إلا من توهمه صحيحاً، ولا يسخر منه إلا من ظنه صريحاً، ولقد يكون وأنت ترى الثوب البالي أحسن وجهاً من عافيته، وأمتن أسباباً في الصحة من