للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[النقد والمناظرة]

كلمات نابليون

كان ميرابو يغير على كل كتاب عصره وخطبائهم ويعدو على بنات أفكارهم. حدث ديمونت قال: كان ميرابو لا يستحي أن يطلق يده في كلام غيره من الناس فمن ذلك أنه خطبنا مرة فأطال عنان القول وامتد به نفس الكلام فخطر لي أن أذيل كلمته بكلمة ألخص فيها خطبته ليقرب بعيدُها ويجتمع شتيتُها وكان إلى يميني اللورد إلجن فدفعت إليه ما كتبته فاستجزله ولقيت ميرابو في المساء فحدثته بما جرى وأريته الرقعة فاستجادها وعرَّفني أنه انتوى أن ينتحلها إذا خطب في الجمعية غداً فقلت أن اللورد إلجن يعلم من أمرها ما تحسب أنه جاهله فقال لا بأس عليَّ منه. أما والله لو أن خمسين غيره يعلمون ذلك لما ردّني علمهم عما اعتزمت. فلما كان الغد صدع بها أخزاه الله!

وإنما فعل ذلك ميرابو لأنه كان من عظم الشخصية وقوتها بحيث كان يرى أن له الحق فيما كان هو الداعي إليه والسبب فيه. ذلك شأن ميرابو وهو أيضاً شأن نابليون وأرث شهرته وخليفته في أمته، وإن كانت دولة السيف غير دولة اللسان، وسلطان المدفع غير سلطان البلاغة والبيان، وإن من كان من طراز ميرابو ونابليون يوشك أن لا يكون صاحب خطبة أو رأى لأنهما ليسا كالعين يتفجر منها الماء ولكن كالحوض تملأه ويشرع فيه الناس فهما مرآة تبصر فيها خيال عصريهما وكتاب تقرأ في سطوره روح زمنيهما وهما باقيان ما بقي للقرن الثامن عشر والتاسع عشر ذكر وليسا كهيجو فإن هذا أبقى على الزمن من الزمن وأخلد على الأيام من الأيام. ومن أجل هذا كان فرضاً على من يعاني تاريخ فرنسا لذلك العهد ويطلب الوقوف على حالتها الاجتماعية والأخلاقية والأدبية أيضاً أن يقرأ ما تركه أمثال ميرابو ونابليون من رسائل وخطب وحكم وأمثال وإلا كان علمه رساً لا خير فيه ولا غناء.

ولم يكن نابليون عظيماً ولكن الناس كانوا صغاراً وما أحبه العامة وأشباههم إلا لما كان بينه وبينهم من الشبه وما زال الناس في كل أمة وزمان يميلون بالود لمن يشاكلهم ويختصون بالمحبة والإعزاز من يحاكيهم ولئن صح أن عناصر الشيء وأجزاءه المكونة له صور في الحقيقة منه أي أن الرئة مكونة من رئات صغيرة والكبد أكباد دقيقة والكلية كلى