للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[ابن الرومي]

(تابع الكلام على طيرته وتعليلها)

بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(وبعد) فإن ما أوردناه من أخبار ابن الرومي على قلتها، وما سقناه من شعره على نزارته، خليق أن يرى القارئ أنه هنا بإزاء رجل غريب ليس كالناس، وإلا فلو أن ابن الرومي كان غير شاذ، وكانت حاله مألوفة، وأمره غير خارج عما عهد أهل عصره، لما أنكروا من أموره شيئاً، ولما وجدوا من أحواله داعياً إلى العجب، ولا باعثاً على التضاحك واللعب، وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء أن نتلمس أسباب هذا الشذوذ لعلنا أن نهتدي إلى بعض السر إذا لم نوفق إليه كله، نقول بعض السر لأن النفس الإنسانية أعمق من أن يسبر غورها نظر الناظر، وأغمض من أن يحسر عنها ظلال الإبهام فكر مفكر، تلك دعوى يقصر عنها باعنا ولا يسعها طوقنا، لأن للحقائق المادية حداً تقف عنده، وغاية تنتهي إليها، وإنما يقول أحدنا بالأغلب في الظن إذا قال وبالأرجح في الرأي إذا نظر، فإذا أصاب فموفق مجدود وإن أخطأ فمشكور ومحمود، وليس يعيب أحداً أنه سعى فخاب وإنما يعيبه أنه قصر وفرط، لأن دواعي الخطأ أكثر من دواعي الإصابة إذ كانت الوسائل قليلة محدودة والغايات لا أخر لها ولا نهاية.

على أنه مهما يكن من الأمر فإن من الحقائق التي صححها القياس وأيدتها كل الدلائل في هذا العصر، أن العبقرية والجنون صنوان، وأنهما جميعاً مظهران لشر واحد هو اختلال التوازن في الجهاز العصبي وقديماً أدرك الناس ذلك فقال العرب ذكاء المرء محسوب عليه وفطن أرسطا طاليس إلى ما ينتاب العظماء من المرض ويظهر عليهم من آيات اضطراب الذهن واعتلاله، وفرق أفلاطون بين نوعين من الجنون - الجنون العقيم المعتاد والجنون الذي ينتج الشعراء ويخرج الأنبياء والعظماء وهذا ليس في رأيه داء أو شراً بل هبة من الآلهة. وأدرك سنيكا ودريدن ما بين الذكاء والجنون من الصلات، وسمى لامارتين النبوغ الجنون المفرط أخو الذكاء المفرط لأن حالات العقل متشابهة في العبقري والمجنون وذلك إن ذهن العبقري يفيض بالخواطر ويجيش بمختلف الذكر ويرى من الصلات بين الحقائق والأصوات والألوان ما يعجز الرجل العادي عنه، والمجنون في كل ذلك قرينه وضريعه،