للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

كلاهما يرجع السبب في أساليب تفكيره وعمله إلى فرط نشاط أو شدة اهتياج أو فتور أو نحو ذلك في بعض نواحي الذهن، وليس الفرق في درجة حدة الإحساس، وقد يكون السبب في الحالين وصول مقدار جم من الدم الفاسد إلى موضع في الذهن، وقد تكون خلايا هذا الموضع العصبية ووشائجه بطبعها مفرطة الحس، وكثيراً ما تصير العبقرية جنوناً أو ينقلب الجنون عبقرية وليس بنا إلى شرح ذلك للقارئ حاجة لئلا نخرج عما قصدنا إليه وإنما نقول إن الذي غلط النسا فيما مضى من الزمن وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات هو حسبانهم أن العقل البشري شيء غير محسوس وأنه جوهر روحاني متصل بالجسم ولكنه غير خاضع لقوانين المادة، وقد أبان العلم الحديث خطأ هذا الظن وفساد ذلك الزعم فليرجع القارئ إلى مصنفات العلماء في هذا المعنى إذا أراد التحقيق.

وبعد فإنه لم ينته إلينا شيء عن أبوي ابن الرومي وذلك ما نأسف له لأن للوراثة أثراً كبيراً وفعلاً لا يستهان به وما يدرينا لعل بعض الخفاء كان يبرح لو عرفنا عنهما شيئاً ولكن أحرى بمن قصر في حق ابن الرومي أن يقصر في حق أبويه! ومن ذا الذي يتوقع من مؤرخي العرب أن يعنوا بغامضين خاملين وقد ناموا عن نبيه مذكور! غير أن مما يعزينا أن شعر ابن الرومي كاف في الدلالة على مرضه وإثبات اعتلاله.

فأول ما يلفت النظر من ذلك رثاؤه لأبنائه الذي رزئهم واحداً بعد واحد وكان له ثلاثة كما هو ظاهر من قصيدته التي يقول فيها:

بكاؤ كما يشفى وإن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودي نظير كما عندي

ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عم

توخى حمام الموت أوسط صببتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد

على حين شمت الخير من لمحاته ... وأنست من أفعاله آية الرشد

طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد

لقد قل بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد

ألح عليه السقم حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد

وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند