للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الجمال والجلال]

قد رأينا أن نتحف قراء البيان بنبذ وشذورات مختارة من أنفس كتاب تناول هذا الموضوع الجليل الذي جرت في مضماره حلبة الأقلام فانثنت عنه حسرى، ولم يسبق إلى الغاية سوى قلم الفيلسوف الكبير والخطيب المصقع أدمند برك واضع هذا الكتاب الذي نحن بصدده. وكان الفيلسوف المذكور قد أوتي نفاذ البصيرة ودقة التفكير، مع سحر البيان وخلابة التعبير، فجاء كتابه آية الآيات، ومعجزة المعجزات، وأصبح على قلة حجمه قد لا تساويه الخزائن المشحونة، وسيرى القارئ مصداق هذا القول إذا ذاق ما نحن مقدموه بين يديه من محاسن ألوان هذا الخوان البديع. أو تنسم ما نحن مهدوه إليه من أطايب أفانين هذا الروض المريع. وقبل أن نطرق هذا الباب يجدر بنا أن نذكر كلمة موجزة عن المؤلف ليعلم القارئ من هو أدمند برك فنقول:

أدمند برك هو خطيب الإنكليز المفوه وحكيمهم الجليل، كان إيرلندياً ولد في دبلن عام ١٧٢٨ ونال شهادة أستاذ في الآداب عام ١٧٥١ وأبدى في سنى دراسته ميلاً شديداً لقراءة أنواع العلوم وصنوف الفنون وأبدى كذلك سرعة بديهة وقوة ذاكرة وولوعاً بالشعر وما وراء المادة. وبعد نيل شهادة أستاذ في الآداب درس القانون ولكنه لم يحترف به بل انصرف للتعمق في الآداب والفلسفة وكان يستظهر كل ما راقه من ملح الكتاب وطرف الشعراء وحكم الفلاسفة، ثم شرع يفكر في ترشيح نفسه للخدمة العامة أعني خدمة الوطن من الوجهتين السياسية والاجتماعية. وفي ذلك يقول ولما وجدت أن دستورنا وتجارتنا هما منبع مجدنا وسعادتنا لم آل جهداً في تفهم هذين الركنين وتوطيدهما فكان سفر القانون لكثرة ما قلب أوراقه وطول ما نظر في سطوره رث الغلاف خلق الصحائف.

وفي عام ١٧٥٧ تزوج ابنة الأستاذ نيوجنت فكانت ريحانة قلبه وسلوة همومه طول عمره. ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسأل ذوي الحرص على الشهرة والمجد والمنصب من الفتيان أن يردوا من مطامعهم، ويكفوا من حدة حرصهم، وأن يؤثروا الصبر والقناعة والزهد أسوة بهذا الرجل العظيم (برك) الذي كان مع بلوغه الثلاثين من عمره ومع ما كان قد أوتى إذا ذاك من جليل المواهب الآلهية والعلوم الاكتسابية عاثر الجد أسود الحظ يعول زوجة وهو لا منصب له ولا عمل وليس في سعة من الرزق ولا في ذروة من المجد ولا جاه له ولا ذكر. ففي ذلك يقول في كتاب له لبعض أصدقائه إنما منعني من الرد عليك