للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

صروف الدهر ودول الأيام واضطرابي بين هذا البلد وذاك بينا تراني في لندن إذ أنا بالريف، ثم لا تلبث أن تراني في بلاد الفرنس وكأنك بي بعد أيام أطأ تربة أمريكا:

يوماً بحزوى ويوماً بالعقي ... ق وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليضاء

ولكن الله أراد بالأمة الإنكليزية خيراً فلم يقدر لفيلسوفها العظيم مناخاً في غير أرضها، ولم يبشنف بأنغام مزهر بيانه إلا مسامع بني أوطانه. وفي عام ١٧٥٨ اقترح على أحد الساسة دودزلي كتابة تاريخ سنوي لإنكلترا يستوعب أهم حوادث الحياة الاجتماعية والسياسية والأمور الأخلاقية، فوافق الاقتراح هوى في نفس ذلك السياسي، وظهر التاريخ السنوي واستمر برك يكتب القسم السياسي أو الخلاصة حتى عام ١٧٨٨ بأجر سنوي قدره مائة جنيه.

وفي عام ١٧٦١ ذهب السياسي هاملتون إلى إيرلنده ليشغل بها وظيفة كاتب أسرار الحاكم العام وهو اللورد هاليفاكس إذ ذاك واستصحب معه بيرك كاتباً له وهنالك انتفع هاملتون أشد الانتفاع بمواهب بيرك ومعارفه وأجرى عليه رزقاً قدره ثلاثمائة جنيه في العام، ثم حدث خلاف بينهما فاستقال بيرك وعاد إلى إنكلترا وقد بلغ السابعة والثلاثين من عمره، وأصبح ذا ذرية وأنه لصفر من المال والوظيفة، بعيد من مناطق الحرف وميادين العمل. ولكن أعاظم الرجال لابد لهم من عصور محنة وأيام شدة وأوقات فراغ وعزلة تنضج فيها قرائحهم وتجم فيها بدائههم وتحتفل اثناءها خواطرهم ويتهيأون في خلالها لملاقاة الخطوب الجسيمة وإمضاء الأمور العظيمة. فيخرج أحدهم من غيابة العزلة والخمول والمحنة وقد سله الله للخطوب من الغمد كسل المهند المغمود.

فلما كان عام ١٧٦٥ رأس الوزارة اللورد روكنجهام رئيس الأحرار إذ ذاك فاتخذ بيرك كاتب أسراره، فكان هذا العمل الجديد مدعاة لظهور فضل بيرك فعرف القوم قيمته وأحبوه حباً جماً حتى إذا كان انتخاب أعضاء البرلمان في عام ١٧٦٥ انتخب بيرك عضواً من حزب الأحرار، ومن ذلك الحين فصاعداً بزغ نجمه وأزهرت دولته وهبط على مجلس البرلمان من فيه ذلك الوحي الجليل السنين الطوال، وتساقط عليهم ذلك الدر البهي الذي لا معدن له إلا بحر علمه الفياض، ولج خاطره الزاخر. وكم له في مجلس البرلمان من موقف كان يأخذ فيه بمجامع القلوب وأزمة النفوس إذ يرسل القول متدفقاً عذباً حتى تظل الألباب