يره دينا ويعده عقيدة تعتنق. ولقد شهدنا ما فعله في عهد الثورة الفرنسية أولئك الفتيان الشباب في سبيل شرف الوطنية المقدسة إذ كانوا هم هياكلها ومعابدها وذبائحها وضحاياها.
وكما أن مجموعة العواطف والفرائض التي تربطنا بأصل الحياة وعنصرها الأول قد اصطلحنا على تسميتها (الدين. . .) كذلك أسمينا مجموعة العواطف والمشاعر والواجبات التي ندين بها لوطننا (الوطنية!)
فالوطنية - أودين الوطن - هذه العقيدة الطبيعية العميقة في حبة القلب الإنساني قد بلغت من الرهبة والقوة بحيث لا نستطيع أن نطلق عليها اسم (الفضيلة) لأن الفضيلة إنما تعيش على محض اختيار الإنسانية وما هي إلا انتصار هذه الحرية في الاختيار على ما يعترض سبيلها من العقبات والموانع وليس أدل على غريزية هذه الحاسة من أنها قد تغلغلت في طبيعتنا حتى لتتراءى كأنها جزء من كيانها. وإحساس مطلق غير متكلف. لا نتعب فيه عاطفتنا. ولا نحمل على إحساسنا لخلقه.
إن الشجرة الفارعة لتوغل بكل قوى جذورها وعصارة جذعها في بطن الأرض التي تحملها وتمد أعناقها نحو السماء التي تساقط عليها خبأها وتسقيها بمائها والطائر يعاود غيره ولا مخطأ العش الذي أظل. وكذلك الإنسان مولع بالأرض التي فتح عينيه الوليدتين أول أمره عليها. مؤثرها على أرض الدنيا ونحن قد رأينا الشعر يرسل ألوانا. وينفث آلاما. ويثير أشجانا. ليصور لنا يصور لنا أحزان الإنسان إذ ينفى عن وطنه وحنينه إلى أرضه. ومن كل ذلك نرى أن الوطنية حاسة نقية غير مفتعلة وغريزة لا فضيلة ووثبة مادية. وليست مجهودا أدبيا.
على أن كثيرين من الناس أرادوا أن يطفئوا نور هذه الحاسة بحاسة أخرى عارضوها بها فقد عرف فولتير الوطنية فقال (إن حب الإنسان لوطنه ليس إلا كراهية أوطان الآخرين!).
وقد حمل طغيان هذه الغريزة والتمادي فيها إلى حد التطرف طائفة الكتاب على أن يروها على غير حقيقتها فد صور الوطنية الكاتب (أوكتاف ميربو) فقال (في هذا العصر الفلسفي