الذي نعيش فيه لا تبعث لدي فكرة الوطن لا صورة شنعاء من القسوة والوحشية والجبروت وتثير في ذاكرتي صور الكراهية والقتل والدماء، إن الوطنية عاطفة جميلة الصورة. ولكنها لا تزال بعد عاطفة مجرمة مجنونة، إذ يتراءى لي الرجل الوطني متوحشا مريش الرأس متمنطقا بسلسلة من الجماجم الآدمية. وقد يرى الناس فيه البطل العظيم ولكنه في الحقيقة ليس إلا قاتلا سفاك دماء!).
ولكن تصوير العاطفة الوطنية وما يصدر عنها من الفعال الجسام بهذه الصورة الهزلية المعيبة إنما هو الخلط بين الحب - وهو الموحي بكل ما هو جميل في الحياة الباعث على التضحية والإيثار - وبين عاطفة الغيرة المجنونة التي لا فرق بينها وبين أشنع ما جاء في سجلات الجرائم وما كان الكاتب الذي ينطلق في مجموعة خرقاء من أمثال هذا الكلام. وينبعث وراء هذا التصوير المذعور إلا رجلا مصروعا متشنجا خبيثا. ونحن لا ننكر أن الوطنية لا تلبث أن تروح ظالمة ناقصة شوهاء شريرة طاغية إذا هي قامت يوما على أساس أنانية أهلية تعلم أصحابها كراهية الأجانب عنها. ونحن نعلم أن حب الذات لدى الفرد لا ينأى يصبح شرا وإحساسا مرذولا إذا هو اتخذ يوما مظهر الأنانية الباغية فاعتدى على حقوق الأفراد الآخرين. وكذلك الحب الغريزي الذي يحسه كل رجل منا بوطنه لا يلبث أن ينقلب إلى حاسة وحشية ثائرة وخطرا مستفحلا إذا هو امتزج بلون من ألوان الأثرة الاجتماعية. ولهذا ينبغي أن تتخلص الوطنية من هذه النوعات وتسير على وحي عقل منتظم وإرادة راجحة مطلقة وتحمي نفسها من أن تكون خارجة عن حدودها ضيقة السرب هوجاء. وقد أصبحت كل أمة اليوم جزءا لا ينفصل عن كيان الإنسانية العامة بما اشتبك في العالم من المصالح التجارية والعلاقات الاجتماعية. والروابط السياسية ونحن نشاهد في كل فرع من فروع الحياة ارتباطا دقيقا بين الأمم والأمم. فأي تقدم وقع لأمة منها ولم يحدث أثره السريع في الأمة المجاورة لها. وأي مخترع استحدثه عالم من العلماء ولم يدع وينطلق طائفا الأمم كلها، وما مصيرنا ومصير سوانا إذا امتنعت الممالك البعيدة عن إمدادنا بالمواد الأولى التي نحتاج إليها في صناعاتنا وماذا يكون مآل السواد الأعظم من الشعوب إذا حمت الممالك مخترعاتها ومبتكرات أذهان أهلها عن جاراتها؟.
ولو أن كل أمة احتكرت آدابها ونتاج عقولها وقصرتها على نفسها. فما كان العالم كله