للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الشرق على الغرب]

وأثر المغرب على المشرق

من أكبر العقائد التي مضى عليها أهل الغرب أن مدنيتهم الحديثة هي مبتكر عقولهم، ووليدة مسعاهم، ونتاج عملهم وافتنانهم، وأن الحضارة وقف على أممهم، واحتكار احتكرته شعوبهم، ولا يزال كتاب منهم وعلماء من أعلام صفوفهم يرمون الشرق بالجمود ويقرفونه بالتأخر، ويتراءى لهم الشرقي رجلاً متبلداً خامد القريحة، مغلول العزيمة، لا ينزل عليه وحي العظمة، ولا تمده الطبيعة بمستلزمات الرقي، ولم تمهد له القوة الإلهية أسباب المجد والرفعة، والسمو والعلاء، وإن الشرق لم يكن يوماً موطن العظماء ومهبط قواد الدنيا الأجلاء، بل قد كانت المدنيات التي أشرقت في جوانبه ووثبت في أنحائه نزوة من النزوات، وفلتة من الفلتات. وأنها لم تكن صالحة لأن تمكث في الأرض وتستقر. حتى أصبح جمع من كتابهم إذا كتبوا شيئاً عن الشرق نعتوه بالشرق الذي لا يتحرك! كأنما خيل لأهل الغرب أن العظمة تجري عليها سنن النباتات. والمواقع الجغرافية، وطبائع الإقليم، فلا تنبت إلا في منطقة معينة من مناطق هذا الكوكب. ولا تنقل أصولها وجذورها فتفرع وتزكو في غيرها من المناطق، وسواها من التخوم والأقاليم. وكأنما العظمة لا توجد إلا في مناطق الثلج والجليد كاللحوم المثلجة التي تنقل منها إلى البلد البعيد. وتستورد من أصقاع البرد والثلج الشديد. وكأن العظمة لا تحتمل وقدة الشمس وسعير القيظ حتى تطلع في مشرق الأرض، بل لا تجمد ولا تتكون إلا في مغيبها. وإن كانت العظمة من أكبر مطالبها الحرارة. وأكبر أعراضها اللهيب والتوقد والاضطرام. فهي خليقة أن تخرج مع الشمس. وتنمو على أشعة ذكاء في مهدها ومنشئها، ولا تصلح باردة ضاردة، تنمو مع مغرب الشمس واصفرارها في أفقها. وقد نسي هؤلاء أن الشرق موطن المدنيات العظيمة. ومسرح الحضارات الكبرى. وأن العظماء قد طلعوا فيه فخلدوا تاريخه. وأنه لا يزال قابلاً للرقي. كلما طلعت الشمس على العالم. وصالحاً للتقدم والعظمة لمتانة نفوس أهله. وقوة جذوة أرواحهم واضطلاعهم بالفضائل وقربهم من مواطن الأديان ومهد النبيين والقديسين.

وإذا نحن أردنا أن نتغلغل في البحث عن الأسباب التي دعت جموعاً عظيمة من أهل الغرب إلى إنكار عظمة أهل الشرق واستكبار الحضارة على بلدانه والجهل بحقه وفضله