كذلك ناجى نفسه في خلوته وعقله رائده وسديد رأيه حاديه وقائده.
ولكن صاح من أعماق نفسه صوتا آخر أشد وأعلى - هو صوت الشباب الملتهب، ولا عجب إذا قلنا أن نار شبابه المحتدم وسنه الصغير التي لم تتجاوز اثنتين وعشرين أوحيتا إليه وحيا آخر مخالفا لما أوحى به عقله وحكمته، وسلكتا طريقة مغايرة من البرهان والحجة. أجل فقد أصبح الآن يملك مفتاح ألف باب من اللذة كانت قبل ساعة مغلقة كلها في وجهه. لقد أصبح بمتناول كفه ألف ملحة وتحفة وألف مطربة ومنعمة وألف ملهاة ومسلاة، كان قبل الآن يتطلع إليها لهفا وتتساقط عليها نفسه حسرة وكمدا ويحن إليها شوقا. ويذوب تمنيا وتوقا. لقد أوتي قوة هائلة وسلطانا عظيما. وكلما تذكر هذا خفق قلبه طربا! أي لذة ومتاع في لبس حلة قشيبة من آخر طراز! أي لذة ومتاع في إشباع نهمته من أطيب المطاعم وري غلته من أرطب المشارب بعد طول الجوع والعطش أي لذة ومتاع في استئجار منزل أنيق وفي الذهاب إلى المسارح والمراقص والمغاني وسائر المطارب والملاهي. أي لذة في غشيان دكان الحلواني والفكهاني والكنفاني والزلباني وهلم جرا - وهنا اختطف الفتى قرطاسه الذهبي ووثب إلى الشارع.
وكان أول ما ذهب إلى الخياط فاكتسى جديدا من رأسه إلى قدمه وشرع يتأمل نفسه كما يفعل الطفل ثم مشى مختالا في برذيه نظارا في عطفيه. وبعد ذلك ذهب إلى العطار فاشترى طيبا ومسكا وغالية. ثم مضى إلى الدلال فاستأجر منزلا بديعا مونقا مزدانا بالمرايا والنوافذ البلورية والأسقف المنقوشة بأعجب النقش والغرف المفروشة بأحسن الفرش - دون مساومة بالأجرة ولا مشادة ولا منازعة. ثم اشترى للتو واللحظة (نظارة أوبرا) بأغلى ثمن واشترى مائة (بمباغ) من كل شكل ولون ثم مضى إلى المزين فرجل له شعره ثم كواه ولواه. ثم استأجر مركبة فركبها وأمر السائق أن يجري به في شوارع المدينة بلا قصد ولا غاية كما يشاء ويهوى قائلا له لما سأله (أين يصد سيدي؟)(على كيفك) وبعد ذلك دخل دكان (فطاطر) فأكل هائلا. ثم دخل مطعما فرنسيا كان يسمع عنه أيام فقره روايات أشبه بالخرافات اليونانية القديمة وإشاعات غامضة مبهمة كالتي تروى عن بلاط إمبراطور