للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[ملح أدبية]

ليس هناك أوجع لقلب الشاعر ولا أجلب لحقده وبغضه من أن يمتدح إنساناً بقصيدة يحبرها ويبالغ في تجويدها وتثقيفها، ويكد في ذلك ذهنه، ويغوص على المعاني النادرة البديعة فيستخرجها من مكامنها، ويلصق به كل محمدة إلصاقاً، ويستقصى في ذلك حتى يكذب ويغلو ويبالغ إلى الحد الغير المعقول، ثم هو لا يحظى من وراء ذلك كله بطائل، كان في عصر الشاعر ابن الرومي وزير كبير يسمى اسماعيل بن بلبل الشيباني ويكنى أبا الصقر، كان هذا الوزير ممدوح ابن الرومي، مدحه بقصائد عدة كلها آية في الإبداع ولكنه أخفق في جميعها، ومن هذه القصائد القصيدة النونية المشهورة التي تربى على المائتي بيت، ولما أنشدوا أبا الصقر هذه القصيدة وسمع هذا البيت منها:

الوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان

قال لقد هجاني، فقيل له إن هذا من أحسن المدح، ألا تسمع ما بعده:

كم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان

فقال أنا بشيبان لا شيبان بي فقيل له فقد قال:

ولم أقصر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان

لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان

فقال لا والله لا أثيبه على هذا الشعر وقد هجاني، فما كان من ابن الرومي إلا أن زلزل الدنيا على أبي الصقر هذا وأخذ يثأر لنفسه منه ويصب عليه جام غضبه كما يقولون وهجاه بعدة قصائد هي الشماتة مجسمة إذ نكبه الموفق الخليفة العباسي بعد أن عزله من الوزارة، فمن ذلك قوله:

فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك

لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فت في عضدك

يانعمة ولت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك

فلقد غدت برداً على كبدي ... لما غدت حراً على كبدك

ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النقص في عددك

ولقد تمنت كل صاعقة ... لو أنها صبت على كتدك

لم يبق لي مما يرى جسدي ... إلا بقاء الروح في جسدك