للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة]

للكاتب الأخلاقي الفكه جيروم ك. جيروم

الحياء

إن جميع كبار الكتاب والمفكرين حييون، وأنا لهذا السبب رجل حي خجول، وإن كان الناس لا يفتأون يقولون لي أن حيائي لا يكاد يبين، ولكني والحمد لله مسرور بذلك الآن مثلج الصدر، إذ كان حيائي شديداً لدي، وكان لي يومذاك مدعاة شقاء وتعب، ولأصدقائي وصحباتي باثع ضيق واستثقال، ولا سيما عند صديقاتي السيدات، وصواحبي الآنسات، فقد كن يشكون من حيائي أمر الشكوى.

إن نصيب الرجل الحيي في هذه الحياة نصيب سيء مرير، فمعشر الرجال يكرهونه، والنساء يحتقرنه، وهو أيضاً يكره نفسه ويحتقرها، ولكن الرجل الحيي مع ذلك يثأر لنفسه من المجتمع بعض الثأر، فهو يستطيع أن يخيفهم كما يخيفونه لأنه لا يكون في الحجرة الممتلئة بالسمار والأصحاب إلا كصمام المدخنة يخنق نفسه، ويمنع سريان الهواء، فيترك أمرح الأرواح وأبهج الصدور بوجوده حزينة، ضائقة، مضطربة الأعصاب وهذا الضيق الذي يعرو الناس من حضرة الحيي في وسطهم، لايبعث عليه إلا سوء التفاهم، فكثيرون من الناس يخطئون فهم الحيي فيحسبونه زهواً وكبرياء، ولهذا يشعرون بأنهم يتلقون منه إهانة لا تسعها المغفرة، وإذا رأوه وقد أخذه الرعب لأول كلمة توجه إليه منه، وقد تصاعد الدم إلى رأسه، وخذلته الألفاظ والعبارات، وفقد قوة النطق، عدوه مثالاً فظيعاً على نتائج الإنهماك في الشراب والملذات.

وهو لا يصيب إلا سوء التفاهم في كل مجلس ومكان، ومهما حاول أن يظهر من التأثير، فالناس لا تدرك إلا نقيض المعنى الذي يريد، فلو أرسل نكتة في المجلس، أخذوها نوعاً ثقيلاً من الجد، وحكموا بها على ضعف قوته في قول الجد، وإذا ألقى دعابةً تلقوها منه رأياً من أرائه، وعدوه من أجلها حماراً، وإذا أراد يوماً أن يستعطف بعض القوم فأنشأ يقول شيئاً من المديح، فظنوه منه تهكماً، وكرهوه من جراء ذلك.

هذه وغيرها من آلام الحي كانت أبداً باعث الضحك والمجون عند كثيرين من الناس، وكثيراً ما أمدت الأدباء بموضوعات طيبة للتفكهة، ولكنا إذا نظرنا بعد نظراً أبعد من